المقالات

تقديم كتاب: من التاريخ المنسي إلى التاريخ العادل” عبد الحق دادي

الكتاب: من التاريخ المنسي إلى التاريخ العادل (دراسات في تجربة المؤرخ إبراهيم القادري بوتشيش)

الكاتب: علي الصالح مولى

دار النشر: دار نشر المعرفة

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه.

أما بعد، فقد أجمل ابن خلدون وجمع أطراف الحد والفهم في علم التاريخ، وأزال لبد الزمان؛ فهو في ظاهره رصف للأحداث عبر سلسلة الزمن، وهذا سوء إدراك لكنهه، وباطنه “نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومباديها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد من العلوم وخليق”[1]

وعند النظر إلى فواصل محددات علم التاريخ نجده يعتمد على خمسة مرتكزات يمكن تصنيفها إلى جانب موضوعي وجانب وظيفي؛ حيث يتجه الجانب الموضوعي إلى الفحص والنظر والتدقيق والتعليل، وهو قائم على الأدلة والحقائق لإثبات أو نفي الحدث جملة، اعتمادا على التعيين والمقارنة و التمثيل والنظر إلى العادة والعرف والدارج بين الناس، والأحداث كما ترتبت في أصل وجودها بدون خرق للعادة أو فصل لعاديات الدهر، ووضع قائمة الزمن لفحص هذه الأدلة والقرائن، وهذا العمل المضني تتوسطه أسئلة وأجوبة ودحض للأدلة وإثبات، كل ذلك ليسلَّم بالحدث أو يسفَّه.

ثم يُنتقَل إلى تأمل هذا الحدث تأمل الواصف الذي ينظر إلى الروابط ، وكأنها خيوط تنسج الواقع بتعقيداته، وحدوده الخارجية وفواصله الداخلية، ليتجه إلى رسم الحياة بحركتها الوظيفية ، ويضع هذا الحدث في مكانه وسط كبكبة من الوقائع، دون إغفال العلاقة التفاعلية بينه وبين الأحداث الأخرى الأقل منه شأنا. وهذا العمل الجبار هو تجديد في علم التاريخ لم يُسبَق إليه ابن خلدون، ولم ينل غيرُه ممن تصدر لكتابة التاريخ شرفَ نسج وإعادة تركيب الأحداث ، والوقائع على هذا المنوال.

إن وسائل النظر هذه تنظر في الأدلة العلمية والوثائق المكتوبة، وغيرها مما يدخل في قوائم الأثر الدال، غير أن هذه الأحداث لا تشكل في نظام المشهد الحي الموصوف سوى نسبة ضئيلة قد تكون طفرة، وومضة أثارت الانتباه أو حوّلت مجرى الأحداث، وهي أشبه ما تكون بعائق من قشٍّ أو نحوِه حول المجرى المائي أبطأ سيلانه، ومن ثم يتم النظر إلى هذا العائق ووصفه والتركيز على أسباب وجوده، وتحديد شروط قيامه، ونشوئه واضمحلاله. إنه مثال قد يبدو باهتا في حدود المناسبة والتمثيل، غير أنه في معارضة الواقع يبدو أكثر إنصافا من حوادث منعزلة في سرديات المؤرخين وحولياتهم.

إن التاريخ المهمل، أو التركيز على حاجز القش، وإهمال النهر برمّته، هو حقيقة ما أراد أن ينبه إليه الكاتب “علي صالح ملى” بحديثه عن التاريخ المنسي أو الحاجز بين الشروط الموضوعية للكتابة العادلة، كما أسماها ، والتي يمكن إجمالها في كونها كتابة مصححة قاعدتها المجتمع، أو ما اصطُلح على تسميته”التأريخ من الأسفل” ، وهو امتداد عبر الموقف المعرفي الممتد أفقيا. ولعل اختيار نموذج المؤرخ الكبير إبراهيم القادري بودشيش كان موفقا؛ نظرا لأن أعماله الغزيرة التي توزعت بين محطات النظر التاريخي بدءاً من التنظير والوصف مرورا بالتحليل والتركيب، مثّلَت مادة خصبة وجامعة لكل أصناف النظر، فكان كتابه المعنون ب: “من التاريخ المنسي إلى التاريخ العادل: دراسة في تجربة إبراهيم القادري بودشيش”، تجربة رائدة  قارب فيها الباحث إشكالية التأريخ عبر أربعة محاور توزعت أسئلتها من مساءلة الذات إلى النظر في الموضوع، يؤطره سؤال مركزي حاصله: كيف انتقل إبراهيم القادري بودشيش من مقام المؤرخ السارد إلى مقام المؤرخ المنتج للمعنى، كما تساءل حول المسالك التي اخترطها للخروج والتسرب والاستقرار، و الوسائل العلمية والمعرفية التي يتوسل بها هذا الناظر لتشكيل التحول من السردية إلى المعنى؟

وعند هذه العتبة رصد الباحث هذا التحول عبر مسلكين؛ مسلك ذاتي يهم المؤرخ ويتجه إلى المعنى الذاتي للوظيفة المعرفية، في حين استقل المسلك الثاني بالموضوع حيث يتم التعين والحصر في الموضوعات والوسائل.

لقد كان هذا السؤال هو قاعدة التمركز المعرفي الذي أقام عليه الباحث علي صالح ملى ، عبر مدخل معرفي حصر فيه المقدمات النظرية والمسارات  العلمية التي أنضجت الأطر التصورية لدى الكاتب، ثم فصل القول في المحددات المعرفية والأدوات المنهجية، التي توزعت عبر جغرافية هذا الكتاب وعينتها ستة فصول؛ فتصدى في الفصل الأول للتصورات الأساسية لمشروع إبراهيم القادري بودشيش، واتجه في  الفصل الثاني إلى تحديد مقومات الكتابة الجديدة، لينتقل في الفصل الثالث إلى المزج بين الذاتي والموضوعي، ويخلص إلى التمييز بين المؤرخ الأكاديمي والمثقف الملتزم، وبعد أن فرغ من الحديث عن التمكين الذاتي إلى التحديد الموضوعي رصد المضمون المعرفي للتاريخ العادل، ليخلص منه إلى التميز الذي حازه إبراهيم القادري بودشيش عبر الخصوصيات التي أكسبها النظر المعرفي للموضوعات، فأغلق باب الفصل الخامس ليؤسس الكتاب كله من خلال بوابة أشرعها على حوار هادئ مع صاحب المشروع.

لقد مثل هذا المسار مسالك البحث ودروب النظر عبر رصد المعنى والبحث عن محددات موضوعات التاريخ، ورصد كل الوسائل والأدوات المعرفية التي تستقيم بها مكملات النظر العلمي، ووحدات الفصل بين أنماط الكتابة التاريخية، كما أنتج الكتاب بينات المؤرخ التقليدي ووحدات الوصل والفصل لدى المؤرخ المجدد والملتزم.

وبعد، فإن هذا الكتاب يعد مرجعا علميا يلحق بالإطار المنهجي، والفلسفي للكتابة التاريخية، وثبتا معرفيا لمفهوم المؤرخ والتأريخ، وهو يعد بحق كاشفا مفهوميا عن المعنى الحقيقي لعلم التأريخ، جارا وراءه كل المفاهيم المغلوطة التي ترسبت حوله، ونحن فخورون في  مركز ابن غازي للأبحاث والدراسات الإستراتيجية بتقديم هذا الكتاب الذي يحتفي بتجربة مؤرخ ملتزم كبير هو الدكتور إبراهيم القادري بوتشيش الذي يعد مدرسة في الكتابة التاريخية، وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.


 مقدمة ابن خلدون ص ،81[1]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق