توأمة الفكر واللغة في بنية العقل العربي الإسلامي (مراد ليمام)-1-
نحاول في هذه الورقة الإجابة عن سؤال يقض مضجع الدارسين والباحثين في قضايا الهوية من منظور لغوي، ويتمثل في كيف يمكن أن نقرأ مسألة الهوية اليوم بعد المنعرج الأنطولغوي للفكر المعاصر؟ فلقد تبوأت اللغة في الآفاق العلمية والفنية والفلسفية مكانا أثيرا بعد تنازع تيارات الفكر ومذاهب الفلسفة لها، وتواردها عليها باعتبار قبوليتها للتحليل العلمي. لاشك أن اللغة اخترقت الوجود الإنساني وكيَّفته على نحو أضحى هذا الوجود لا ينفك عن كينونته اللغوية. فإذا كانت معارك التفكير والهوية في ماهيتها معارك لغوية، فإن بعض الفلاسفة نعتوا هذه الهيمنة والإشعاع الناطق للغة بظاهرة “تضخم اللغة” لكونها أصبحت تشكل ميتولوجياجديدة تعمل على
“انحباس الفكر داخل اللغة”، بالمقابل، يعيد البعض الآخر للغة أهميتها انطلاقا من الموقع الأنطولوجي التي صارت تحظى به لكونها ترسم معالم العالم الإنساني وحدوده. فلقد كان غادامير (Gadamer) وريكور (Ricoeur) يقيمان تماهيا بين اللغة والوجود وذلك على اعتبار أن اللغة “وسط للتجربة التأويلية… فاللغة هي الوسط الكلي/الكوني الذي تجري فيه عملية الفهم”.
داخل هذا الإطار، نناقش مسألة الهوية العربية الإسلامية من منظور لغوي عن طريق إقامة الفكر داخل اللغة، مادام النطق هو أخص ما تختص به هوية الإنسان. فالكلمة تخرج عن كونها تمثيلا لفظيا، أو تصورا يمثل شيئا آخر، لتتحول إلى فعل نداء يأتي بالغائب ليصير معلوما. وليس الغائب سوى الكلام المُترجِم لصمت الداخل (الذات) وقد أمكن له أن يتحقق لسانا. بالمقابل يمثل الفكر الحد الفاصل بين صمت الداخل وكلام الخارج (العالم) عندما يكسر أسر الصمت الداخلي لحظة تدفق الخارجي، وبذلك”تكف الكلمات عن الامحاء أمام الأشياء تمسي الكلمات كلمات لذاتها”.
فهناك الداخل الذي يجول في الخارج، علما أن كليهما يحتويه العالم وأن الفكر هو ما يمنحه إمكانية أن يكون كذلك تحت طائلة الترميز اللغوي. فالعالم في نظر الإنسان المسلم دلالة على قدرة الخالق وإبداعه، ليكون الإنسان ضمن هذا العالم علامة تتكون من دال ومدلول: “فالإنسان في كليته علامة، وفكره علامة، وكذلك عاطفته”.
وبما أن معجزة الحضارة العربية الإسلامية ممثَّلة في القرآن الكريم، أمكن القول إن حضارتنا “حضارة لغوية”. فالارتباط مكين بين لغة العرب وحضارتهم إلى درجة أن كلا منهما مبني على الآخر، ومن ثمة فاكتناه منطق في تحديد دلالات الكلمة القرآنية ما كان ليصير دون حضور الفاعل الأساسي المضمر الذي هو حركية الفكر اللغوي. وٳذا كانت هنالك حركية فكرية لغوية يمكنها أن تجمع بين الكلمة القرآنية و دلالاتها، فهي بلا شك اللقاء بين اللسان العربي والقرآن الكريم.
فما علاقة الهوية اللغوية بالفكر؟ وكيف يمكن لهذا الفكر أن يرسم معالم العقل العربي الإسلامي وبنيته؟
بداية، ليست الهوية معطى منجزا ومنغلقا على ذاته، بل تتحرك وتتكيف وتتطور نتيجة التلاقي مع ثقافات مختلفة جراء تعدد وسائل الاتصال، خصوصا لغة النصوص
والخطابات التي تفصلها عن الذات مسافة زمنية، أو ثقافية، أو مكانية، أوتاريخية… اللغة هنا محدد من محددات الهوية تحيل الذات على ما تملكه، أو ما تبحث عنه، أو ما تتفاوض بشأنه، أو ما تبنيه في خطابها الجديد انطلاقا من لغة خطاب النصوص السابقة، بشكل يحقق الوعي المتجدد بالذات. وهذا التجدد تكتشفه الذات انطلاقا من تعددية أنواع النصوص والخطابات، واختلاف هياكلها التنظيمية.
كما تفترض الهوية وجود الأنا في الزمن والمكان بشكل يظهر علاقة الهوية بالذاكرة ويجعلنا نحيل على مفهوم الذاكرة الخطابية. فإذا كان الخطاب يشكِّل المستوى الخلفي أثناء إدراك الذات لذاتها ومحيطها الخارجي، فإن التعرف على المعنى المعطى يستدعي إسقاطه على خطاطة خطابية موجودة سلفا ترتبط بالمسار الاجتماعي للمؤسسات الثقافية. فاستحضار الذاكرة الخطابية تستلزم حشد مجموع المعارف، والتجارب المسجلة، والخبرات التاريخية لمجتمع ما، مادامت القواعد المعيارية التي تتكون عبرها الملفوظات نابعة من قيم و خبرات مسجلة بالذاكرة الجماعية والفردية التي يستحضرها المتكلم في سياق ما: “الخطابات بوصفها وحدات عبر-جملية تخضع لقواعد التنظيم داخل مجموعة اجتماعية محددة: قواعد تحكم الحكي، والحوار، والحجاج… وقواعد ذات علاقة بتصميم النص، وقواعد ترتبط بطول الملفوظ…”.
فمحدد الذاكرة يرتبط بمحدد الذات أو الأنا عن طريق نص الخطاب، لأن الذات مصدر التعيين الشخصي، والزمني، والمكاني… وبذلك تشكل وضعية التلفظ هنا مركز الرحى، بينما الذات والذاكرة الخطابية هما قطبا الرحى. فالذات تباشر تأويل الملفوظات بجعلها تتعالق مع ملفوظات النص الثقافي الذي تتموقع عبره من خلال الوعي بالزمن والتفاعل الإيجابي مع المحيط الاجتماعي، والبيئة، والطبيعة، والموروث الثقافي والحضاري.
غير أن هذه الذات لا تتعرف على ذاتها ﺇلا ﺇذا انتقلت ﺇلى صورة الوجود، أي الانتقال من الذاتي ﺇلى الموضوعي المتمثل في فعل القراءة والتلفظ. ويتحقق هذا الأمر عندما تنفث الذات وتقذف بذاتها خارج نفسها بأن تميِّزها بالانعكاس في الموضوعات المدركة أو المقروءة. فعندما نقول وعي الإنسان منصهر بوعي العالم الخارجي الذي تعكسه بنية النصوص والخطابات، نعني أنه يظهر داخل الذات بحيث يصبح الاثنان –تقريبا- واحدا. هنا يمكن أن يتحول هذا العالم ﺇلى نص تسكنه الذات و تشترع منه ﺇمكاناتها الذاتية من خلال تحرير خطابها الخاص بها انطلاقا من خطاب نص ذاك العالم.