المقالات

توأمة الفكر واللغة في بنية العقل العربي الإسلامي (مراد ليمام)-2-

تسمح هذه  القضايا من ﺇقامة الصلة بين االلغة والمجتمع من خلال مفهوم الخطاب والنص، مادامت لكل نص مرجعية تاريخية واجتماعية، ولأن وضعية تلفظه (المتحاوين، المعايير…) محددة عبر تموقعه في الزمن. فاللغة من وجهة نظر تاريخية واجتماعية تحمل رهانات تتصل بمعايير، وقيم أخلاقية، وثقافية، وسياسية… لأن الذات هي نتاج سياق حضاري وثقافي لايمكن لها أن تنفلت منه بشكل مباشر أو غير مباشر. لذلك من المفروض موقعة اللغة ضمن مكونات هوية الذات. بالإضافة ﺇلى ذلك، يتصل المعنى الذي تبنيه الذات بنوع التبادل الثقافي وااللغوي التي تشارك ضمنه، لأن كل لسان يمثل نسقا من التمثلات ذات الصلة بالواقع والحياة بحيث تقيم من خلاله الذات علاقة بينها وبين نسق التمثلات المحددة لإنتاجه واستقباله، والتي تختلف باختلاف الزمن. يستوجب اللسان وضعا معرفيا يشترك فيه طرفي التخاطب في وسط ولحظة تلفظ معينة. ويفترض التحكم في لسان ما التحكم في تنظيمه النصي والوعي بمختلف المكونات المُحددة له. فكل لسان يتطلب من مستعمليه التحكم في الموارد اللسانية الخاصة به داخل وضعية تفاعلية بحسب القواعد المعيارية التي تتأسس على مجموعة من القيم والأحكام. وبذلك تتغير دلالات الألسن بحسب التشكيلات الخطابية، طالما يرتبط الخطاب باللسان داخل وسط اجتماعي وسياق محدد. فالواقع في الفعل اللساني ممثَّل انطلاقامن وجهة نظر خاصة تعكس من يتكلم  أويكتب، ومرجعيته التاريخية والاجتماعية، بحيث يتحدد الخطاب عبر تموقعه في الزمن، والمجتمع، والأيديولوجيا، والثقافة: ” فباعتبار التلفظ  تحققا فرديا للسان، يمكن تعريفه بوصفه فعلا دالا على الامتلاك. فالمتكلم يستضمر الجهاز الشكلي للسان ويتلفظ انطلاقا من موقعه بوصفه متكلما… و بمجرد  ما يتخذ صفة المتكلم، يضع طرفا ثانيا أمامه رغم درجة حضوره. كل تلفظ هو فعل قول يفترض و جود قائل”. لذا، كان الكلام أو الكتابة متصلين بعدد من العناصر الأساسية التي يمدنا بها نسق اللسان وفق ضوابط ثابتة قصد تأليفها. 

بناء عليه، تمسي مظاهر التمثيل اللفظي بوثقة تستوعب ما في الحياة من تبدل وتغير وتطور وصيرورة، فهي المعادل الموضوعي للبنية الثقافية القائمة بالألفاظ والترميزات وفق ضرورات الفكر. وبالتالي يصبح البحث في الوجود الإنساني،بحثًا في رد فعل الفكر المقذوف به في نظام من أنظمة حضارة التعبير والتواصل اللغويين. كل لسان يفسر العالم وفق خصوصية التدفق اللغوي المنساب من جوف الفكر، بحيث لا مجال للتفريق بين فعل التفكير ومنتوجه أو حدوثه اللغوي. و هذا يعني أن الهوية العربية الإسلامية التي يصنعها الفكر وتوجهها الكلمة القرآنية، هي مجموع التحولات النوعية التي يتغير بها الوضع الجماعي. فاللسان العربي يقيم نظاما هندسيا من العلاقات المقولية وفق الاستراتيجية الخفية للفكر اللغوي الذي يولد

دلالات الكلمة القرآنية. ثم يأتي هذا النظام الهندسي إلى العقل العربي الإسلامي ليحدد تمفصلات اشتغاله وفق طريقة مخصوصة. فمغزى هذا الإخراج الهندسي ينحدر من التشكيل اللغوي للفكر الذي يتم بموجبه تشييد قوام هندسي للغز علاقة الإنسان بالوجود في صيغ دلالية ينظر إلى إنتاجها (العقل) دون الانتباه إلى فاعلها(الفكر اللغوي). فالبناء الهندسي للتفعيل الدلالي للهوية العربية الإسلامية يختلف عن صانعه الذي يشكل تدوينه الأصلي في منطوق فكري وإشارات موضوعية.  

فإذا كانت تكتيكات العقل بوصفه جهازا وآلة هي الفهم، فإن هناك استراتيجية مُبطنة تشمل تلك التكتيكات وتقوم على أهم سؤال وهو كيفية بناء الفهم واستخدامه بالشكل الذي هو عليه. يحيلنا السؤال إلى حركية الفكر اللغوي بوصفه حيز بناء الفهم واستخدامه وسيلةً لتوليد الدلالات من الكلمة القرآنية. لذا ينبغي تأسيس مفهوم الهوية العربية الإسلامية على مفهوم الفكر اللغوي باعتباره حالة تعقيلية لجهاز العقل. وبذلك تمسي العلاقة المساحية بين العقل بوصفه أداة للفهم وبين الفكر اللغوي بوصفه فاعل الدلالة ومنطوقها التلفظي علاقة احتواء واشتمال. فتحديد معالم الهوية العربية الإسلامية يستدعي مراجعة العلاقة االقائمة بين الفكر اللغوي والعقل أو على الأقل توضيحها. فالمتدخل الرئيسي بين العقل وما يولده ليست اللغة، بل استراتيجية الفكر اللغوي الذي يهب العقل تنظيمه المنطقي وبنيته المقولية انطلاقا من تشكيله اللغوي على أن جريانه هو فقط  ما يتضمنه من تمثيلات و تقطيعات لفظية. وتنهض حركية الفكر اللغوي في نظام الخطاب العربي الإسلامي على دعامة دينية تجعل هذا الفكر ذا إلهام نبوئي تتصل فيه الذات الإنسانية بالذات الإلهية اتصال استمداد عن طريق الكلمة القرآنية.

فإذا كانت اللغة هي معجزة الفكر اللغوي وشرطه الوحيد ليسترد ذاته كوجود ناطق، فإن اللسان يخلق عالما شريكا موازيا للعالم الخارجي وفق تشكيل دلالي تمثله بنية العقل ونظام الخطاب الذي تؤسسه. تخلق ثنائية اللغة والفكر عالما ناطقا للعالم الخارجي الصامت لحظة تعقيله وتعقُّله في بنية ثقافية تمحو صمت العالم وسديميته في حدود دلالية يمثلها نظام الخطاب. فهذا الأخير هو الشاهد على فصم الفكر اللغوي عن العالم عند تشغيل آليات العقل ومفهمته لما يحمله الفكر اللغوي. وكأن إقبال هذا الفكر وإدباره يُشغِّل دور الواسطة (العقل) ليُقدم نفسه (الفكر) في حد دلالي يصنعه العقل ويتحدد بواسطته في بنية يحمل اللسان تدوينها المُسجل على نظام الخطاب. 

فحركية الفكر اللغوي المدفوعة بالرغبة في الكشف اللُّغزي عن أسرار الكلمة القرآنية تعكس القدرة اللامتناهية على التفكير الموضوعي والتفكر الذاتي في مجاهل الطبيعة، والعالم، والنفس البشرية. ويتجلى هذا الكشف في نظام الخطاب بوصفه حالة تعقيلية تمثل بنية العقل واللسان الذين يجسدان في كل مرة حركية الفكر بتصميمات تروم تحويل العالم من الحالة السديمية والكاوسية إلى ما يحدد الأشكال المختلفة لصور الحياة العربية الإسلامية عبر المحور الزمني. ففي ٳطار البحث المستميت عن كنه الحقائق المغيبة، ينهال المطلق جلَّ وعلا في الكلمة القرآنية اللامحدودة، فتجذبها حركية الفكر اللغوي وتمتصها طلبا للإلمام بالانتظام الكلي للعالم في ارتباطه الوثيق بالمطلق. ومن ثمة، لا حيز لدلالة العقل العربي ولسانه خارج الكلمة القرآنية الموجهة لحركية هذا الفكر.

فالعقل العربي الإسلامي جهاز وبنية تتمثل آليات عملهما في منطوق تلفظي يترجمه اللسان إلى دلالة يختص بها نظام الخطاب. لكن ما يوجه تشغيل العقل العربي وفق منهجية مخصوصة هو الفكر اللغوي الذي يفارق حركيته في فترة زمنية لكي يصير متناهيا في بنية دلالية تؤسس تاريخ الجماعة اللسانية. فالمستفيذ من فصم توأمة الفكر اللغوي والكلمة القرآنية هو العقل، الذي يعيش انفصام توأمته مع هذا الفكر. فالعقل تمثيل زمني للفكر ومرجع يترجم حركيته ليمسيَ صيغة شاهدة على تجسيد العلاقة بالغائب. وكأن الفكر يتوسل بما عداه ليرجع فكرا لسواه -والمُتمثل في العقل- أثناء تشييد بناء دلالي على نحو يجعل العقل يشغل دور الوساطة حتى يقدم الفكر نفسه كحقيقة في حقبة تاريخية أو زمن ما. وما كان ليحدث هذا البناء الرمزي والتاريخي لولا أن اللسان العربي انبثق مُختلفا من صيغة التوأمة بين الفكر اللغوي والكلمة القرآنية. فلقد انتزع العقل من تلك التوأمة دلالة تمحو صمت العالم في صيغة تُمثِّل بنيته لأنه جهازلتمعين الاستقالة اللحظية لتوأمة الفكر اللغوي والكلمة القرآنية عن العالم الخارجي. تسمح تلك الاستقالة أو الانفصال اللحظي من تشغيل العقل وبنْيَنَتِه في نظام خطاب يصطف تحت كنف اللسان العربي. وبذلك، يهب الفكر اللغوي للمطلق المنغل في الكلمة القرآنية عرضا دلاليا خاصا -في كل مرة- على نحو يبرز التوتر الحاصل بينه وبين العالم الخارجي، مانعا في الآن ذاته انغلاق عمل العقل في بنية وصيغة دلالية. فإذا كانت للعقل العربي آليات يشغِّلها، فإنه  لا يقتطع من الكلمة القرآنية السابحة في مجرى الفكر اللغوي سوى حصصا دلالية ضئيلة لإمكانيات اشتغاله، والتي تتآكل باستمرار في لحظات الاستقالة. فالمسألة لا تتعلق بمساحات توزيع الدلالات، بقدر ما هي تنوع في أساليب تشكيل العقل لمنهجيات اشتغاله لتوليد الدلالات وفي طرق الإجابة عن الأسئلة المتغيرة للجماعة اللسانية.

          

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق