ثقافة الاحتجاج السلمي بين المرجعية الإسلامية والتاريخ: مداخل أولية
يروم هذا المقال تقديم مدخل تصوري لمشروع بحث مستقبلي، ورسم معالم خريطة طريق أولية تسائل موضوع الاحتجاجات السلمية من منظور الشريعة الإسلامية، وتجلياتها في التاريخ الإسلامي خلال العصر الوسيط، مع التركيز على دور الفقهاء في قيادة الاحتجاجات. وقد اخترنا ثلاث مداخل لمعالجة هذه الإشكالية:
1- المدخل اللغوي:
يصبو المدخل اللغوي إلى رسم المحددات المفهومية لمصطلح ” الاحتجاج”، واستنطاقه لغويا بغية مقارنته بمفهوم التجلي التاريخي العياني الذي حدث على أرض الواقع، لتبرير استخدام المصطلح.
من ناحية البنية اللغوية، يجد مصطلح “الاحتجاج” جذره اللغوي في فعل حجج. وقد ورد بهذا الخصوص في “لسان العرب” ما يثبت المعنى الذي تتضمنه بعض الوقائع التاريخية يقول ابن منظور: «احتجّ بالشيء: اتخذه حجة». كما يأتي في معنى المغالبة والانتصار سلميا على الخصم، وإقناعه بإظهار الحجة عليه؛ إذ ورد في هذا الصدد «أحج خصمي: أي أغلبه بالحجة».
وترد في النصوص المعجمية عدة مصطلحات تتماهى مع المفهوم الذي يحمله مصطلح الاحتجاج أيضا، من قبيل “الاعتراض”، و”الاستياء” و”الاستنكار” و”التبرّم” و”الممانعة” و”المطالبة”، و”المجاهرة بالغضب” وغيرها من المصطلحات التي تعبّر عن رفض طرف فعل أو سلوك نهجه طرف آخر، انطلاقا من مبررات بيّنة، وحجج قاطعة، مع ما في تلك المصطلحات من تمايز حسب ظرفية وسياق النص.
وبالنسبة لمفهوم الاحتجاج عن طريق المظاهرات كما هو متداول في الفكر المعاصر، نجد لدى ابن منظور مفهوما يتقارب مع هذه الدلالة؛ فقد أورد في تفسير لفظ “حجحج ” ما يحيل على الصياح، وهو الفعل الذي يصاحب في معظم المظاهرات أصوات الاستنكار والاحتجاج والتعبير عن الاستياء. كما ورد في المعنى الذي يشير إلى الاعتصام بمكان ما، حيث ذكر ما يلي: «تجحجح القوم بالمكان: أقاموا به فلم يبرحوا»، لكن دون أن يشير صاحب “لسان العرب” إلى ارتباط دلالة الاعتصام بموقف احتجاجي، أو أي معنى يتواشج مع مفهوم ” الاعتصام”(Sit-in).
أما من الناحية الاصطلاحية، فالاحتجاج هو شكل من أشكال التعبير عن الرفض والاستنكار ضد فعل أو قول، أو ضد قرار ينتج عنه ظلم أو غبن، أو تطاول على حق الغير. ومن ثمّ فهو حقّ من حقوق البشر، يتجّسد حسب كلمات أحد المفكرين في الخروج « إلى المجال العام طلبا لإحقاق حق، أو دفع ظلم؛ فهو خروج من البيت إلى الشارع أو الميدان، يعبّر عن حالة من عدم الرضا في الحيز الخاص، وحملها إلى الحيّز العام»، شريطة أن لا يكون هذا الخروج منفلتا عن دائرة الأعراف والقوانين، أو متعارضا مع تعاليم الديانات والقيّم الإنسانية، وإلا تحوّل إلى احتجاج غير شرعي، ومشروع فوضوي لا يملك رؤية ولا هدفا محددا.
2-– المرجعية الإسلامية في الاحتجاج:
يستهدف المدخل الثاني الوقوف على الخيوط الناظمة التي تعطي للاحتجاج السلمي شرعيته الدينية، بحكم علاقة المجتمع الإسلامي بمرجعيته الدينية. وفي هذا السياق نستحضر النص القرآني والمتن الحديثي والقول الفقهي، وما تختزنه تلك النصوص من محفزات تتداخل فيها المعاني وتتعالق لتصبّ في مجرى وجوبالاحتجاج على الظلم، والتماهي مع حقوق الإنسان. فالخطاب القرآني يقطع بتحريم الظلم، ويناهض كافة أشكاله بلا هوادة، بل يجعل مهمّة مقاومته وتغييره في مرتبة الإلزام. ويضرب الأمثال بالأنبياء الذين احتجوا على الطغاة، وانتصروا عليهم، بمنهج الوعظ والنصح، والتحلي بأخلاق المناظرة،والحوار الهادئ، والحجة المفحمة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أجل تغيير الوضع، وتحقيق العدالة والمساواة وإقامة الحق، وهي قواعد المعرفة الأخلاقية التي أرستها المرجعية القرآنية.
وعلى المنوال نفسه، تلزم الأحاديث النبوية بالاعتراض على الظلم والضرر، بل المطالبة علنا بتطبيق الأمر بالمعروف ودفع المنكر، باعتبار هذا الفعل الاحتجاجي جوهرا للتقويم، وأساسا للإصلاح، وقاطرة لبناء العمران البشري، والتنمية والاستقرار.
أعطت هذه الخلفية الدينية للعلماء والفقهاء في الإسلام مشروعية الاحتجاج على كل ظلم أو أمر خارج عن سياج الشريعة الإسلامية، والتعامل معه بصفته منكرا ينبغي تغييره. ولا يقتصر الأمر في الخطاب الإسلامي على المجال الديني فحسب، بل يشمل كذلك آليات تدبير الحكم، ومجالات الاقتصاد والسياسة وغيرها، حتى إن الإمام الغزالي اعتبر دفع المنكر واجبا شرعيا وفرض كفاية، بل عدّه «القطب الأعظم للدين» وأفضل من الاستشهاد في الجهاد.
وفي الوقت الذي تعلي المنظومة التشريعية الإسلامية من شأن إسداء النصح والجهر بالحق في مواجهة أهل الجور، وتحذّر من مغبّة الوقوع في شراك السكوت عن الظلم؛ فإنها لا تدع مجالاً للانفلات من أداء واجب إنكار المنكر، إذ على كل فرد في المجتمع الإسلامي أن ينهض به قدر استطاعته، بالقلب أو اللسان أو اليد، وبالمنهج التربوي الذي يروم إصلاح النفس البشرية واقتلاع مساوئها، خاصة إذا تعلق الأمر بتحقيق كرامة الإنسان، ومناهضة الفساد، ونهب المال العام وسوء التدبير.
وتأسيسا على ذلك، استند بعض العلماء إلى مقاصد الشريعة الإسلامية لإعطاء المشروعية لثقافة الاحتجاج، وتحديد السياقات المعقولة التي تستدعي الفعل الاحتجاجي،خاصة الاحتجاج على الظلم والفساد، والمطالبة بتغييره، شريطة ألا يأتي بمنكر أكبر يبدو محتملا. كما اعتبروا ذلك أداة للضغط على الظالم ليعدل عن ظلمه، وعلى المفسد ليخرج من دائرة الفساد، ويزول التسلط، والتحكّم غير الشرعي. وأكّدوا كذلك أن من حقّ المظلوم أن يحتج بكل وسيلة يبيحها له الشرع لإبلاغ مظلوميته، شريطة عدم التجريح والقذف، أو نهج أي أسلوب من أساليب الاحتجاج التي حرّمتها الشريعة الإسلامية، وخصوصا الاحتجاج بالعنف واستعمال السلاح.
صحيح أن ثمة أشكال أخرى من الاحتجاجات محرّمة في الأصل، لكنها تجوز إذا كان الإنسان مظلومًا؛ فالجهر بالسوء من القول، يتضمن خشونة وتجاوزا وتجريحا أمام مرأى ومسمع من الملأ، ولكنه جائز إذا تعرض المرء للظلم كما يتبيّن من قوله تعالى: (( لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا)).
أما الدعوة إلى الصبر على الظلم وعدم الاحتجاج عليه كما ذهب إلى ذلك بعض الفقهاء، فلا يعني البتة الصمت والمراقبة عن بعد، وترك المنكر على حاله، بل هو استباق للحيلولة دون السقوط في فخ الاحتجاج المسلّح الذي لا يمت بصلة لفلسفة الإسلام وناموس الكون.
مع ذلك فالحكمة التي تتضمنها الشريعة الإسلامية تقتضي أن يتحرى المحتج الطرق السلمية والموعظة الحسنة في الاحتجاجات، حتى لا تنحرف عن هدفها، فتهدم المطالب وتقوّضها، وتمسّ بمنظومة الأمن الاجتماعي أو ما يعرف في لغة الفقهاء “بالفتنة “.
3– الاحتجاجات السلمية في التاريخ تحت مظلة العلماء:
رغم صعوبة التأريخ لحركات الاحتجاج السلمي في التاريخ الإسلامي، بسبب اكتفاء المؤرخين بتدوين الثورات العنيفة التي هزّت عروش الحكام المستبدين، فإن التراث الإسلامي لا يخلو من متون متنوعة عكست حالات الاحتجاجات المسالمة، تراوحت بين النص المكتوب والشفاهي، وتوظيف الشعر والنثر والغناء، والأهازيج والأمثال الشعبية، والرمز والاستعارة والحكي، فضلا عن الطرائف وكافة أشكال السخرية، وغيرها من الأدوات التي استعملت لانتقاد سلطة سياسية، أو الضغط عليها للتراجع عن سلوك معيّن، أو قرار جائر.
غير أن أبرز مظاهر الاحتجاجات السلمية في التاريخ الإسلامي، تبدو بصورة أوضح في الاحتجاج السلمي الذي قاده بعض العلماء. وأنا لا أحيل في هذا المقام على فقهاء السلطان الذين دبّت فيهم غرائز المصلحة وحبّ شهوات الدنيا، بل أقصد العلماء الذين ورد ذكرهم في النص القرآني رديفا للملائكة في الاستقامة والعدالة. إنهم العلماء الذين لم يختاروا مسايرة الطغاة والاصطفاف إلى جانبهم، ولم يكونوا يخشون في الحق لومة لائم.
والفاحص لأحداث التاريخ الإسلامي، يلاحظ أن علاقة نخبة الفقهاء بالسلطة في مجال الاحتجاج على المنكر، لم تتجاوز سقف الاحتجاج السلمي الذي لا يحرّض على الخروج عن الحاكم، خشية انفراط الاستقرار الاجتماعي وتصدّع وحدة الأمة، وهو ما سماه الشيخ عبد السلام ياسين رحمه الله بـ”القومة” التي يقوم بها علماء الأمة بوعظ الحاكم، وتربية الرعية وتثقيفها لإصلاح الوضع القائم، بدلا من الاحتجاجات الهوجاء، وهو حكم تأسس على واقعية العلماء، وعلى التشخيص والتعقل الذي يتجاوز المواقف الحدية، بغية التفاعل مع الظرفية العامة، والقراءة الدقيقة للمتغيرات، ومراعاة موازين القوى، وتبني الحكمة في التعامل معها.
ومع أن احتجاج الفقيه كان يكتسي صبغة فردية تمظهرت في عدة أشكال كعدم التجاوب مع السلطان المستبد، أو رفض بيعته، أو عدم الإفتاء بما يوافق أهواءه، أو التهرب من تولي منصب يكلّفه به، أو توجيه رسالة احتجاجية له، أو حتى الشخوص إلى بلاطه لتقديم شكوى والتعبير عن تذمّر الرعية، وهي نماذج حدثت تاريخيا، فإن مثل هذا السلوك الفردي لا ينفصل عن مواقف المجتمع والتعبير عن آلامه وآماله.
وحسبنا إن ثقافة المجتمع الإسلامي وأعرافه، تنيط بالفقيه أو العالِم مسؤولية النيابة عن الشرائح الاجتماعية في ترجمة أحاسيسهم ومطالبهم وآمالهم؛ لذلك كان في كل حقب التاريخ يتحولّ إلى كائن جمعي، ويكتسب صفة الناطق الرسمي باسم الجماعة، ولسان حال ضمير الأمة، خاصة إذا عرفنا أنه كان يتشبث في احتجاجه بمنطوق الكتاب والسنة، وبكافة تجليات المرجعيات الإسلامية والإنسانية التي تجعله ينسلخ من فردانيته لينطق باسم الأمة، مما يحمل شحنة دلالية على أن العلماء والفقهاء الذين تنطبق عليهم مقاييس النص القرآني، وتتجسد فيهم الصفات الحقيقية لوظيفة العلم، كانوا يتحملون مسؤولية النيابة عن المجتمع في التعبير عن آرائه ومواقفه ومطالبه التي ارتبطت دينيا بانحراف الحاكم عن جادة الدين ومنهج العدالة، وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا بعدم تلبية الحاجيات الأساسية أو النسبية للمجتمع، فيما يعبّر عنه علم الاجتماع السياسي بنظريتي الاحتياجات الأساسية (Basic Human Needs) والحرمان النسبي (Relative Deprivation التي تتمخض عن خلل في تدبير وتصريف الموارد داخل البلد ، وما يرتبط بذلك من خلل وتعقيدات.
وتأسيسا على ذلك، نعتبر أن احتجاج الفقيه ليس حالة فردية كما تبدو ظاهريا، بل هي تعبير أمين عن ضمير جمعي، وأنموذج لتداخل الفردي مع المجال العام.
وإذا استحضرنا احتجاج بعض الفقهاء على دفع الضرائب والدفاع عن موقف الجمهور بعدم أدائها للسلطة كما فعل الفقيه الأندلسي ابن الفراء في القرن الخامس الهجري/11م تجاه الأمير المرابطي يوسف بن تاشفين تحت مبرّر أن بيت المال لم يكن فارغا كما زعم الأمير، فإن مفهوم الاحتجاج هنا يرتبط بمفهوم “العصيان المدني” الذي كان الكاتب الأمريكي “هنري دايفيد ثوراو” أول من نحته في مقالته الشهيرة “العصيان المدني” المنشور سنة 1849م. وقد جاءت مقالته عقب امتناعه عن دفع ضرائب الحرب، احتجاجا على العبودية والقمع والاضطهاد والحرب التي كانت تخوضها المكسيك ضد الولايات المتحدة الأمريكية، حيث رأى في الامتناع عن دفع الضرائب نوعا من الاحتجاج الذي يلزم السلطة بتغيير سلوكها ليلائم إرادة الشعب. فالعصيان المدني بهذا المعنى يكون أداة للمقاومة والرفض والاحتجاج، ولكن بشكل سلمي متحضر.
نخلص إلى القول أن مسألة الاحتجاج السلمي لا تزال تشكل بقعة مهملة من بقع التاريخ الإسلامي في العصر الوسيط، وان دراسة هذا الموضوع دراسة مركّبة تولّف بين النص النظري المتمثل في مصادر التشريع الإسلامي والوقائع التاريخية المشتتة في ثنايا المصادر الدفينة، قد يسمح بملء بياضات مهمة من تاريخنا، ويكشف دور العلماء الملتزمين الذين تحملوا مسؤولية قيادة الاحتجاجات السلمية، المعبرة عن ضمير الجماعة والأمة لبناء مجتمع المواطنة.