جائحة كرونا والنيوليبرالية(محمد نافع العشيري)
من الأسئلة الكبيرة التي أعادت أزمة كورنا طرحها بقوة سؤال متعلق بطبيعة النظام الاقتصادي وسؤال مرتبط بالهوية. سنخصص هذه المقالة للحديث عن السؤال الأول على أن نخصص مقالة لاحقة لمقاربة السؤال الثاني.
كان للأحداث الكبرى التي عرفتها أوروبا في بداية القرن العشرين أسباب مباشرة في ظهور الرأسمالية الجديدة أو النيولبرالية التي أطلقها الاقتصادي الألماني ألكسندر روستوف سنة 1938 وكان الغرض هو مواجهة الأزمات الاقتصادية التي عرفتها أوروبا و مواجهة الفكر الاشتراكي و بعض تجلياتها الاقتصادية خاصة اللبرالية الاجتماعية التي تقوم على تدخل الدولة لضمان التعليم، ورعاية حقوق المواطنين، وسن القوانين ذات الصبغة الاجتماعية؛ كالضمان الاجتماعي، والتقاعد، والبطالة والعجز، والرعاية الصحية، وتحسين الخدمات، ورفع مستوى المعيشة. بالإضافة إلى مواجهة الفكر الجمعي الذي جسدته الفاشية والنازية و الرغبة في سلفية اقتصادية تستلهم أفكار رواد الرأسمالية خاصة آدم سميت. وقد قام هذا التوجه الجديد على مبدأ ” أدنى أقصى” أي تقليل دور الدولة إلى أدنى حد والزيادة في دور القطاع الخاص إلى أقصى حد. وقد زاد من قوة هذا التوجه نام العولمة وفتح الأسواق والتقدم التكنولوجي خاصة تكنولوجيا الاتصال. لكن الأخطر في هدا النظام هو تحول المال فيه من وسيلة إلى غاية، وتسليع كل شيء، بما في ذلك القيم. إذ لم تتحقق نبوءة المنظرين النيولبراليين الذين كانوا يرون في هذا النظام الاقتصادي النظام الوحيد القادر على تحقيق الرفاه للإنسانية. بل على العكس من ذلك أفرز هذا النظام ويلات قامت بكشفها عدد من الدراسات والأعمال لمفكرين وفلاسفة واقتصاديين من العالم الغربي نفسه، منها كتاب”انهيار الرأسمالية” Der Crash des Kapitalismus للألماني أولريش شيفر Ulrich Schafer وكتاب” اقتصاد يغدق فقرا” لهورست أفهيلد.
ولعل أخطر هذه المزالق كما أشرنا إلى ذلك سابقا هو عصف السوق بمنظومة القيم الأخلاقية التي كانت تعطي للتربية معنى وقيمة، وقلب سلمها. فبينما كان الشرف والعفة والتضحية والشجاعة والكرم والحب والأخوة والتضامن والتسامح وحب الأوطان والصداقة والنجدة والمروءة والنزاهة على رأس القيم الأخلاقية التي كانت تسعى الحضارات إلى ترسيخها في نفوس الأطفال والشباب، أصبحت الشطارة والخداع والمراوغة والأنانية والمصالح الآنية والميكيافيلية ملامح القيم الأخلاقية الجديدة. “فالسوق كما يقول حسن أوريد ينحني للشاطر الأريب، وللمخاتل المخادع.. أما القاضي النزيه، والمربي المتجرد، والشاعر، فنماذج لا يحسن أن تُقتدى. هم زمرة الخاسرين Losers. ولا شفقة ولا رحمة على الخاسرين في منظومة السوق.”
وقد نتج عن واقع جديد لم يدر بخلد آدم سميت نفسه،ولم يشهد له التاريخ مثيلا هو “العالم المسلّع”. هكذا تحول كل شيء إلى سلعة داخل علب براقة ومغرية. فالفن سلعة والرياضة سلعة والجنس سلعة والعلم سلعة، بل أصبح التعليم و الصحة اللذين يمثلان أساس الكرامة الإنسانية كما يقول الفيلسوف الفرنسي ادغار موران، تحت إدارة الشركات و الفكر الرأسمالي
لقد فقدت المدرسة وظيفتها في بناء الإنسان،وتنمية مداركه، وتهذيب مشاعره، وتخليق سلوكه، وتطوير قدراته على الاستمتاع بالفن والتفكير الفلسفي… وتحولت إلى معمل لتكوين يد عاملة مدربة تكون في خدمة رأسمال جشع تحت شعارات براقة كالكفايات الأساسية، وربط المدرسة بمحيطها السوسيواقتصادي. إذ المعروف أن أغلب البيداغوجيات الحديثة، وخاصة بيداغوجيا الأهداف وبيداغوجيا الكفايات، ظهرت في الولايات المتحدة الأميركية متأثرة بالفلسفة البراغماتية لجون ديوي التي كانت تحث على الفعالية، وتجعل مما يمكن أن يجنيه الفرد والجماعة من فوائد معيارا للصدق ومقياسا للحقيقة. كما كانت قادمة من مجال الاقتصاد وتدبير المقاولة ونظريات تايلور وغيره…” وهي نظريات جعلت هدفها الأسمى، كما هو معلوم، الرفع من كفاءة العمال في الصناعة والزيادة من مردوديتهم وتحسين جودة العمل والإنتاج وترشيد الإدارة في المقاولات… “
لقد فقدت المدرسة وخاصة في العالم الثالث تلك القدرة على التوجيه، واكتشاف المواهب وأصحاب القدرة، بحيث يوجه أولئك الذين يخفقون ويفشلون للأعمال الاقتصادية في البلد ويصبحون رجال أعمال وكتبة في الدوائر وعمالا في المصانع ومزارعين… “.
كما فقدت المدرسة قاعدتها الخلقية باعتبارها محضن يتم في:” توحيد أفراد المجتمع في وحدة، وتعليمهم التضامن والاتحاد وأنهم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، وأنهم مدينون لبعضهم بالتزامات وواجبات ونعم معينة… “.
وتحول الفن الذي كان يقوم بوظيفة أساسية تتمثل في السمو بالروح وتهذيبها، وعشق الجمال، إلى سوق مربحة؛ فاتجه شيئا فشيئا، تحت ترسانة إعلامية قوية، إلى الابتذال و الإغراء والبحث الحثيث عن آفاق انتظار الجمهور لإرضاء الشرائح الواسعة، والرفع من نسب البيع والمشاهدة. وتحول الفنان إلى رهينة في يد شركات الإنتاج، تشتري خامته الصوتية وتنظم حفلاته، وتفرض عليه توجهاتها واختيارتها الغنائية والغذائية واللباسية، وتتدخل في حياته العامة والخاصة، من أجل تحقيق شركات الإنتاج أرباحا ضخمة.
كما فقدت الرياضة، التي كانت يوما ما وسيلة لبناء الجسم وحفظ الصحة وتشجيع المنافسة الشريفة وتهذيب نزعات الإنسان نحو العنف والحرب، لتتحول هذه المعاني النبيلة إلى ميدان صراع بين شركات ضخمة ورجال أعمال ووسطاء يتنافسون في شراء اللاعبين وبيعهم، وجلب الإشهار، وحصد الألقاب والجوائز، وحقوق البث… التي تدر عليهم أموالا طائلة.
وكانت الصحافة بحق السلطة الرابعة التي تفضح الاستبداد وتزلزل العروش، وتعبر عن آهات المحرومين وزفراتهم، وتنشر الوعي والمعرفة والأدب، وتثقف الجماهير قبل أن تتلقفها البرجوازية، وتحول مسيرها، وحولتها إلى مقاولة همها الأول هو تغطية النفقات وتحقيق الأرباح. فأصبحت تخضع لسلطة المشهرين، وتدخل تحت الحماية المالية لشركات كبرى أو رجال أعمال، أو أنظمة سياسية كانت تستغلها لتحسين صورتها خارجيا وداخليا، أو تصفية حساباتها مع الخصوم، أو تصريف بعض قراراتها أو تهيئة الأجواء لذلك.
وتحول العلم والمعرفة اللذان كانا وسيلة لاكتشاف الظواهر وفهم العالم وتخفيف معاناة الإنسان، وتحقيق سعادته، إلى مصدر للاغتناء الفاحش، ومنبع من منابع الثروة الذي لا ينضب، فظهرت مجتمعات جديدة اصطلح عليها “مجتمع المعرفة” تباع فيه المعرفة والخبرة وتنتفي فيه الرحمة والشفقة، كما هو حال الملكية الفكرية الخاصة بالشركات المصنعة للأدوية والعقاقير الخاصة بأمراض خطيرة كالسرطان والايدز… فلا عجب أن نسمع الآن تصريحات لمسؤولين من منظمة الصحة العالمية تدعو إلى ضرورة تكثيف الجهود لتوفير دواء فعال للجميع وبثمن مناسب.
وتحول الجنس، هذه الغريزة التي كانت وسيلة لحفظ النسل وتجسيد عاطفة الحب النبيلة، إلى سوق نشطة، بعد أن وجدت فيه الرأسمالية معينا لا ينضب من الأرباح. فظهرت كما يقول حسن أوريد:”حوانيت الجنس ومحلاته الكبرى وأروقته ومجلاته وممارساته لكل الحاجات وكل الأذواق من الدعارة الرسمية إلى الدعارة Post time، ومن الجنس تحت الطلب إلى السياحة الجنسية، ثم إلى الأنشطة الموازية للتنشيط أو الاستعاضة لمن تخلف عن الركب؛ التدليك والساونا والسبا SPA والبارات والمراقص والرسائل الوردية والستربتيز… ناهيك عن السينما البورنوغرافية و الفيديوهات الجنسية والمنشطات الجنسية والفياغرا..”
ومن الأجل المحافظة على إيقاع الاستهلاك؛ بل والرفع من وثيرته، لم تجد الرأسمالية بدا من تشغيل آلية الإشهار الذي أضحى “حاضرا في كل الأمكنة وعبر جميع وسائل الاتصال، حتى إن حياة الناس ونشاطهم اليومي، حسب “سعيد بنغراد” أصبحا مشروطين بإغراء الصورة والحركات والألوان والخطاب المصاحب. كلها غدت تشكل أهم دعائم الإشهار التعبيرية.” ولم يعد الخطاب الاشهاري خطابا ثانويا وهامشيا بل أصبح في قلب الحدث اليومي.” فادا ما نحن تنبهنا إلى الحصة التي يأخذها الإشهار من وقت الناس في فواصل البرامج التلفزية وصفحات المجلات والجرائد واللوحات الاشهارية، فإننا سندرك إلى أي حد أصبح الإشهار يفرض نفسه قهرا على الناس في المجتمع الرأسمالي الحالي.” ومن مخاطر هذا الاشتراط، فرض الإشهار بالقوة على المتلقي وقطع متعة المشاهدة )ما يعرف بالفواصل الاشهارية(، وإثارة الغرائز الكامنة وتحريكها المستمر بغرض تحقيق الإشباع، وتحويل الكماليات إلى ضروريات، وتعطيل ملكة النقد والمساءلة. وهي بذلك تحطم تلك الصورة النبيلة التي دافع عنها أفلاطون وسانتا موريس وفورييه وتولستوي، صورة الجنة البسيطة، وتخلق مكانها، كما يقول الفيلسوف “ول ديورانت” نمط حياتي يعود بالإنسان إلى طبيعته الأولى حيث:”شراهة الإنسان والترف. فالناس لا يقتنعون بالحياة البسيطة، وهم بطبعهم يحبون الاقتناء والطموح والغيرة والمنافسة، ويملون بسرعة مما لديهم، ويتوقون إلى اقتناء ما ليس عندهم ويشتهون ما في يد غيرهم. “وهل يفعل الإشهار أكثر من هذا؟ من منا لا يعرف قصة الأمريكي الذي شاهد إشهارا جميلا لعجلات”كوديير” فذهب إلى أحد المحلات واشترى عجلات جديدة ليكتشف بعد عودته إلى البيت أنه لا يملك سيارة.
وبينما كانت الديمقراطية من أرقى الأشكال لتجسيد الإرادة العامة وممارسة السيادة الشعبية، واختيار الحاكم والتداول على السلطة…، فإنها سرعان ما تسلل إليها فيروس المال من أجل تمويل الحملات الانتخابية وشراء الأصوات واستمالة وسائل الإعلام. والمال يتحقق بالوصول إلى قبة البرلمان أو الحكومة من خلال الأجرة الشهرية المرتفعة، وعمليات الوساطة والسمسرة وتفويت الصفقات، وحماية أباطرة المخدرات…فأصبحنا نسمع بفضائح من قبيل تمويل القذافي لحملة ساركوزي وتمويل روسيا لحملة ترامب وتمويل عصابات المخدرات لبعض الأنظمة الاستبدادية… لهذا تغير مفهوم الديمقراطية حسب نعوم شومسكي “من مجتمع يملك فيه العامة)الجمهور(الوسائل اللازمة للمشاركة الفعالة في إدارة شؤونهم، إلى مفهوم جديد يقوم على منع العامة من إدارة شؤونهم، وكذا من إدارة وسائل الإعلام التي يجب أن تظل تحت السيطرة المتشددة.” ألم يصبح المواطن الأمريكي، على سبيل المثال، المحصور بين حزبين اثنين لا ثالث لهما، شبيها بمعتنق الديانة المانوية التي تقوم على ثنائية النور والظلمة؟
كان أفلاطون قد تنبه بحدسه القوي إلى هذه المآلات التي تنزلق إليها الديمقراطية بسبب الأمية والإعلام. يقول:”ولكن حتى الديمقراطية تدمر نفسها، بالإفراط بالديمقراطية؛ إن مبدأ الديمقراطية الأساسي هو مساواة الجميع في حق الحصول على المنصب وتقرير السياسة العامة. إن هذا الترتيب يبدو سارا لدى النظرة الأولى، ولكنه يتحول إلى كارثة ونكبة، لأن الشعب ينقصه الإعداد الكافي في التعليم لاختيار أفضل الحكام وأفضل الخطط، والشعب لا يفهم، ويعيد ما يخبره له زعماؤه من عبارات يحب سماعها… إن حكم الجماهير أو الغوغاء بحر هائج يتعذر على سفينة الدولة ركوبه والسير فيه، وكل ريح من الخطابة والشعوذة من جانب الخطباء تحرك المياه فيه وتعطل المسير، وتكون نتيجة مثل هذه الديمقراطية حكم الطغيان أو حكم الاوتقراطية… “.
هل يحتاج كلام أفلاطون لأدلة واقعية؟ لا شك أن هناك مواقع سياسية شاهدة على ذلك فلم يعد يترشح في بلدان العالم المتخلف كما العالم المتقدم إلا الأثرياء ورجال الأعمال)عائلة كيندي وعائلة بوش وعائلة ترامب في الولايات المتحدة الأمريكية وعائلة ساركوزي في فرنسا(.
هكذا بسط المال يده على كل مناحي الحياة، ولم تعد هناك قيمة تعلو على قيمة المال والمادة. والخطير هو أن هذه الثقافة التي انتقلت إلى الهوامش؛ إما من خلال الاستعمار المباشر، أو من خلال العولمة الزاحفة بأذرعها المالية والاقتصادية والإعلامية التي تنشر قيمها في كل مكان، المغرقة في المادية والثقة العمياء في المؤسسات مما أدى إلى الانتشار السريع للفيروس في بعض الدول الأوربية التي وجدت نفسها بدون مستشفيات كافية ولا أطر طبية ولا معدات. ونحن نتذكر هنا جميعا تلك الحملة التي شنها ترامب على برنامج الرعاية الصحية الذي وضعه باراك أوباما. وحتى الكمامات وأجهزة التنفس اضطرت هذه الدول النيولبرالية إلى استيرادها من الصين أو دول أخرى، بعد أن تنازلت عن هذه الصناعات بسبب عدم ربحيتها.
لهذا تتعالى أصوات من أوروبا و أمريكا محذرة من هذا الانحطاط كما سماه الفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفري والذي أشار مؤخرا في حوار مع مجلة لوبوان الفرنسية إلى أن جائحة كورونا تشكل مرحلة حاسمة في انهيار الحضارة اليهودية المسيحية. وهذا ادغار موران يقول “لا يمكن القبول بمواصلة إدارة المستشفيات والمدارس والجامعات على أساس الربح المالي، بل يجب التفكير في إنشاء مواطنين أصحاب عقول، وذلك من خلال العودة للاعتماد على الخدمات الحكومية التي تراجعت كثيرا في العقود الأخيرة”.