حدود الشريعة بين الذاتي والعرضي وبين الحد الأدنى والحد الأعلى(محمد همام)
تقديم:
1- السياق المنهجي للمشروع
يمكن إدراج مشروع حسن حاج فرج الدباغ المعروف فكريا بعبد الكريم سروش[1]، ضمن المشاريع الفكرية التأويلية المعاصرة، والتي تشتغل داخل حقلي “فلسفة الدين”، و”الكلام الجديد””،كحقلين يقومان على التأمل الذهني العميق، بعيدا عن التبجيل والتمجيد والمديح للذات والرضا عن النفس، بروح تنزع الى التأصيل والإبداع، وتؤذن بميلاد آفاق جديدة لللتفكير واجتهاد كلامي حي لا يستأنف الماضي كما هو ولا يقتلع أفكارا من سياقها، وإنما يسعى الى توظيف معطيات العصر، مع التوكؤ على مكاسب التراث، والمزاوجة بينهما بتوليف وتركيب منظومة كلامية وفلسفية تطمح لمواكبة الحياة ومتطلبات المسلم الاعتقادية في عالم يضج بالمتغيرات والتحولات[2].
وإن مثل هذه المشاريع القائمة على التقويم والمراجعة للتراث الإسلامي تساهم في التدريب على النقد باعتباره ممارسة فكرية لازمة لبناء الأفكار وتطويرها وبناء مرتكزات منهجية جديدة للاجتهاد، بما توفر لها من مادة غنية متدفقة وقدرة تأويلية فائقة ومستندة الى منجزات مجالات “الهرمنيوطيقا والتأويل”، في جدل مستمر مع الواقع وأسئلته ومتغيراته بعيدا عن المقاربات المدرسية والتعليمية التي هيمنت على كثير من الأبحاث الكلامية والدينية.
وقد اتسم مشروع عبد الكريم سروش بالجدة والجرأة، وبالقدرة الفائقة على التأويل من خلال صياغة رصيد كبير من المعطيات التراثية من حقول الدينيات والفلسفيات والعرفانيات والكلاميات واللغويات، ممزوجة بجهاز نظري ومفهومي من عتاد فلسفة العلم والعلوم الاجتماعية والهرمنيوطيقا، بما يجسد البعد التكويني التكاملي لصاحب المشروع.
2- مصادر المعرفة
شكل التكوين متعدد المداخل والمجالات الذي ميز عبد الكريم سروش نقطة إضافة في مشروعه؛ إذ جمع بين خبرة الصيدلي والكميائي، ذات المنحى التجريبي والتحليلي، وبين فلسفة العلوم (الإبستمولوجيا الوضعية)، وبين التصوف والعرفان(جلال الدين الرومي)، والفلسفة (كانط) والتاريخ (هيغل) والمعرفة (فوكو) واللسانيات (سوسير وجاكبسون)، مع انفتاح غني على الهرمنيوطيقا والتأويل والأنثربولوجيا وعلم الاجتماع. ولو أن سروش لا يفصح عن مصادره المعرفية؛ مفاهيم ونظريات ومناهج، في الغالب الأعم، إلا أن مزجه بين هذه المستويات المعرفية أغنى بحثه وأبعده الى حد كبير عن صيغ الجدل الكلامي القديم، وأحاطه بقدر واف من الطابع المعرفي (الإبستمولوجي)، متخففا من النزعة الدفاعية والطابع التعبوي للعقل الكلامي القديم، مع استحضار الأطر التاريخية والاجتماعية للمعرفة الدينية، في إطار الهم الثقافي العام الذي سكنه كأحد مثقفي الثورة في إيران في إحدى مراحل حياته.[3] وبحكم تأثره بالدكتور علي شريعي اهتم في أبحاثه الأولى بداية ثمانينات القرن العشرين، بالتفاعل مع النظريات الماركسية وقضايا فلسفة العلم؛ وفي هذا السياق جاء كتابه (ماهو العلم ما هي الفلسفة؟)، وكذا دراسته النقدية لكتاب محمد باقر الصدر (الأسس المنطقية للاستقراء)[4] .
ولكن بعد تقلص الأجواء الثورية في إيران في النصف الثاني من الثمانينات من القرن العشرين،وهيمنة رجال الدين على السلطة السياسية، نحا نحو فكريا ونقديا محضا لدراسة المعرفة الدينية، وعمل في هذا السياق على مزج خلفيته النظرية والمنهجية الإبستمولوجية والوضعية بثقافته الواسعة في التراث الإسلامي، وخاصة ما يتعلق بالفقه والأصول والكلام والعرفان؛ فقد كان شديد التأثر بأشعار المتصوفة كحافظ الشيرازي وسعدي وجلال الدين الرومي، بل أسس نظريته المعرفية وأفقه الفكري من خلال الاغتراف من المتن الصوفي، ومنه اقتبس أهم مفهومين في مشروعه الفكري وهما: “القبض” و”البسط”. وتحوم جل المفاهيم التحليلية التي يستثمرها سروش على هذين المفهومين باعتبارهما مفهومين مفتاحين.
3- مفاهيم الدراسة
يلمس المطلع على المشروع الفكري لعبد الكريم سروش توفر صاحبه على ذاكرة حادة في حفظ أشعار الصوفية والتمرس على أساليبهم وتعابيرهم المتنوعة، وهذا مايبرر عند الكثير من الدارسين حرصه على تجميع مقولاته الفكرية والنظرية تحت مفاهيم ومصطلحات عرفانية؛ مثل: “القبض” و”البسط”[5]، للدلالة على ما تعرفه المعرفة الدينية من تحول وتنوع واتساع وضيق ومرونة وصلابة، ولنزع القداسة وصفة الخلود على هذه المعرفة، مما يمتد بالتدرج الى مفاهيم بشرية وأقوال تاريخية في الفقه والفتوى بما هي: “نهاية المراد”، و”غاية الإفهام”، و”منتهى الدراسة”،[6] و”الجواب الكافي والشافي”…
ويدعو سروش في المقابل الى أطروحة (تكامل المعرفة الدينية)، من خلال أطروحة تفسيرية (تأويلية) تستند الى عتاد فلسفي إبستمولوجي يستلهم منظور التمييز الكانطي بين المعرفة لذاتها والمعرفة لذاتنا؛ أي التمييز بين الدين وبين الفكر الديني أو المعرفة الدينية؛ أي قراءتنا أو تأويلنا للدين.كما يربط هذه المعرفة مع باقي المعارف البشرية؛ أي يلح هذا المشروع المنضوي تحت عنوان: (القبض والبسط) على نسبية المعرفة بما فيها المعرفة الدينية، ويلح على أثر المعارف الأخرى في هذه المعرفة، من خلال عمليات الترابط والجدل والتفاعل، سواء على مستوى النظر والأسس السابقة للمعرفة والمعطيات المترتبة عنها، أو على مستوى المنهج أو المفهوم.
ويتسم مشروع سروش بتنوع المفاهيم وبغنى منظومته الاصطلاحية التي يستثمرها وبغزارتها، لذا سيقتصر البحث على الاشتغال على أربعة مفاهيم ذات دور محوري في هذا المشروع التأويلي؛ وهي “الذاتي”و “العرضي”،و “الحد الأدنى”، و”الحد الأعلى”؛ فالذاتي في الدين مضمونه والعرضي هو صورته، والعلاقة بينهما هي علاقة الأمور العرضية بالذات.والذاتي يضعنا في “الحد الأدنى”للدين،والعرضي في “الحد الأعلى”،بما يعني جدل هذه المفاهيم وتفاعلها لصياغة وجهة نظر تأويلية في الدين وفي المعرفة الدينية.
ويؤطر سروش مفهومي “الذاتي” و”العرضي” داخل دعوى عامة تقوم على “أن الإسلام أو أي دين آخر بذاتياته لا بعرضياته، والمسلم هو الذي يجد نفسه ملزما بالاعتقاد بالذاتيات فحسب”.
وأما الدعوى العامة المؤطرة لمفهومي “الحد الأعلى” و”الحد الأدنى” فتنطلق من أن “جميع التدابير والقواعد والمفاهيم الضرورية في دائرة الاقتصاد والسياسة والتجارة والأخلاق ومعرفة الله وغير ذلك من أنواع التصورات الذهنية الساذجة والمعقدة في حركة الحياة البشرية واردة في الشرع”؛ وهي دعوى: الحد الأعلى. أما دعوى الحد الأدنى فتنطلق من أن “الشارع قد بين للناس (مما يقع داخل مسؤوليته ورسالته) الحد الأدنى الذي يلزمهم في حركة الحياة والواقع من الأحكام”؛ وهي الدعوى التي سيدافع عنها سروش وسيبرهن عليها، من خلال مستويات عدة.
وتشتغل هذه المفاهيم المختارة ضمن منظومة غنية داخل المشروع الفكري لسروش إلى جانب مفاهيم: التعددية الدينية، وجوهر الدين، وحدود الدين، ومعرفة الدين، والوعي بالدين، والنزعة الدينية، وانتظارات الانسان من الدين، ومجالات الدين، وعلاقة الدين بالأيديولوجيا وبالأخلاق، ولغة الدين، والتجربة الدينية، وثنائية فهم الدين من دون الاعتقاد به، والدين والعقل، أو التدين والتعقل، وعلم اجتماع الدين، وعلم نفس الدين، والتدين العلماني، وأخلاق الآلهة، والصراطات المستقيمة، وأسلمة العلوم …. كلها مفاهيم تتفاعل فيما بينها وتتداخل لإنتاج رؤى نقدية وخلاصات فكرية فيما يتعلق بالأطروحة الدينية التي يقدمها المشروع.
(يتبع)
[1] – ارتبطت عملية إخفاء الأسماء الحقيقية واستعمال أسماء مستعارة بمرحلة سياسيىة في ايران، في عهد حكم الشاه؛ إذ كان سروش من زمرة المفكرين المناهظين لسياسة الشاه، و كان من ذوي الميول الفكرية النضالية الى جانب علي شريعتي ومطهري.
[2] – ينظر:عبد الجبار الرفاعي، راهن التفكير الإسلامي، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العدد، الثامن عشر، 1422/2002، ص 4.
[3] – حصل شروس على دكتوراه في الصيدلة من جامعة طهران سنة 1968، وسافر الى بريطانيا عام 1972 لإكمال دراسته في الكيمياء التحليلية، وانتقل الى جامعة لندن فدرس فلسفة العلم خصوصا في شقيها: النقدي والوضعي، عاد الى إيران عام 1979، وانظم الى لجنة الثورة الثقافية، ثم انتقل الى جمعية الحكمة والفلسفة في طهران، وتفرغ للبحث فيها، وكان عضو المجمع العلمي.
[4] – نقل هذه الدراسة الى العربية عمار رغيف في كتابه: “الأسس المنطقية للاستقراء في ضوء دراسة الدكتور سروش”، عام 1989م.
[5] – يستلهم سروش هذين المفهومين من “الجنيد الصوفي” ؛في قوله: “الخوف من الله يقبضني والرجاء منه يبسطني”، كما يتناص مع القرآن الكريم في قوله تعالى: “والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون”،البقرة/245.أو قريب من قوله تعالى:”ولاتجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولاتبسطها كل البسط”،الإسرا/29.
[6] – سرمد الطائي، “نظرية القبض والبسط النظري للشريعة، بين تهمة السفسطة وهم التأسيس لخطاب إسلامي جديد”، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العدد الثامن عشر، 1422-2002م،ص 295.