حرية التعبير: بين مجتمع المواطنة ومجتمع العشائر(عز العرب لحكيم بناني)
أكتشف مفارقةً لا توجد إلا في المجتمعات التي تسعى إلى انتهاك “حرية الرأي والتعبير” من خلال التَّرويجِ لصورٍ شعبويّةٍ ومبتذلةٍ لحرية الرأي والتعبير. وهذا ما يُنذِرُ بالتّشويش السلبي على معنى الحرية. تقوم كثير من الدُّول بفتح المنابر الإعلامية للإسفافِ والابتذالِ من أجل تقييد حرية الرّأي والتعبيرِ المتعارضة مع كلِّ ألوان الابتذال، وهذا ما يحدثُ حتّى في أعرق الديمقراطيّات. وهذا ما أعرضه في نقطةٍ أولى؛ كما أنَّ الحقَّ في حرية التعبيرِ قد يؤدّي إلى صداماتٍ اجتماعيّةٍ تعمّق الشروخَ الاجتماعيةَّ وتشكّلُ خطراً على حرية الفكرِ. وهذه هي النقطة الثانية في التدوينة.النقطة الأولى: أعتقد أن الخطر الذي يُحدِقُ “بحرية الرأي والتّعبير” يظهر في السّماتِ التّالية:- أن نختزل حرية الرّأي إلى مجرَّدِ تعبيرٍ عن الأهواءِ الشخصيةِ التي لا تناقشُ. هناكفرق بين أن أقول “أنا لا أحبُّ البطاطس” وبين أن أقول: “أعتقد أن البطاطس تتوفر على فيتامين س”. لا يحقُّ لأحدٍ أن يسألني لماذا لا أحبُّ البطاطس، ولكن من حقه أن يسألني عن دليل احتوائها على فيتامينات. هناك آراءٌ لا تناقش لأنها مسألة ذوق، بينما تحتاج الآراءُ الأخرى إلى دليلٍ، وإلا لكانت لغواً وثرثرةً. تصبح حرية الرّأي مبتذلةً حينما نُحَوِّلُ كلَّ الآراءِ إلى مسألة ذوقٍ دون مبالاةٍ بالحجج ويصبح صاحبُ الرّأي كمن لا رأي له.- يظهر الخطر في حرية التعبير، حينما نستهين بأهمّية التّعبير الجمالي. وكلما تجسَّدَالرّأيُ في أصالةِ الإبداعِ الفنّي لم يعترض أحدٌ على سلامةِ الذَّوقِ الجمالي الذي لا يحمل رسالةً إيديولوجيةً جاهزةً، سواءً كان شعراً أو نثراً أو رسماً أو موسيقى. يرقى التعبير الفني الجميل بالذَّوقِ ويسمحُ بانصهارِ الآفاقِ بين الثقافات. يثيرُ الفنُّ الرّاقي انبهارَ الحسِّ الجمالي aesthesisبالجمال المنبعث من الرُّسومِ والموسيقى والشّعر، دون أن نعلمَ أيَّ شيءٍ بالضرورةِ عن المحتوى الإيديولوجي لتلك الأعمال الفنية. وهذا ما يميز العمل الفني عن غيره من الأعمال التي لا تدخل في خانة الفنِّ، على الأقلِّ ما يقوله ياوس Jauss، وهذا ما تفتقر إليه كلُّ الأعمال التي تدّعي أنها تمارس حريّةَ التّعبيرِ.الخطر هو أن “حرية الرّأي والتعبير” لا تتعرَّضُ لخطرٍ حقيقي إلا إذا اضطهدنا حرية “الاحتجاجِ” للرّأي بالأدلة والحجج وناهضنا حرية التّعبير “الجمالي” الذي يستمرُّ عبر الزمن.والحال إن “حرية التعبير” كما ظهرت في الرسوم المسيئة إلى الإسلام ليست تعبيرا بهذا المعنى عن الرأي وليست تعبيراً فنياً جمالياً، بقدر ما أنها جزءٌ من الاستهلاك الثقافي والدعاية الإعلامية التي تبحث باستمرارٍ عن الإثارةِ للزيادة في المداخيلِ.النقطة الثانية هي أنَّ استهداف فرنسا في المقام الأول بالأحداث الإرهابية – التي يدينها المسلمون في أي مكانٍ- يشير إلى أن “حرية الرّأي والتعبير” كحرية مطلقة تؤدّي إلى خلق صراعاتٍ اجتماعيةٍ داخل المجتمع الفرنسي، وهي صراعات ناتجة عن تعدُّدِ المرجعيّاتِ الثقافية والعرقيّةِ والدّينيّةِ. قسَّمت الرسوم المسيئة إلى الإسلام المجتمع إلى مؤيِّدٍ ومعارِضٍ؛ واستفاد الإرهابيون من ذلكَ، لأنهم أقنعوا أتباعهم أنَّ الإرهاب هو الحلّ، بالضبطِ كما كان “العقاب” في الأصل طريقةً تدبير النزاعات داخل العشائر. تحوَّل المجتمع الفرنسي من مجتمع المواطنة إلى مجتمع العشائرِ. ظهر شرخ ثقافي داخل المجتمع وأصبح الإرهاب يستفيد من النعرات الدينية والعرقية واستغل الرسوم المسيئة للإسلام واستنكارها عبر ربوع العالم الإسلامي من أجل دفع أنصاره إلى الثأر من تلك “الجريمة”. أصبحت الجرائم الوحشية التي يرتكبها الإرهاب تعبيراً متزايداً عن صراعاتٍ اجتماعيةٍ خفيّةٍ بين مرجعيّاتٍ ثقافيّةٍ متباينة. وهكذا، أصبح القانون الفرنسي في وادي والمجتمع الفرنسي في وادي آخر. يُعرِّفُ القانون الجرائمَ تعريفاً وضعيّاً يقترن بانتهاكِ القانون والاعتداء الجسدي؛ في المُقابِلِ، بدأت تظهَر جرائمُ أخرى في غفلةٍ من القانون الوضعي الفرنسي كجرائمِ الشَّرَفِ وجريمة ازدراءِ الأديانِ وبدأ التطرُّفُ يتزايدُ. وما من شكٍّ في أنَّ تزايدَ الصراعات الاجتماعية بدأت تتّخذُ أبعاداً عنصريّةً من جهةٍ وأبعاداً دينية وعرقيَّةً من جهةٍ ثانيةٍ، دون أن ينتبه أحدٌ إلى أنَّ المجتمعاتِ في كلِّ الدُّولِ لم تكن يوماً ما متجانسةً وأنَّ الإجماعَ الذي حقَّقته يظلُّ إجماعاً هشّاً على الدّوامِ. ولذلكَ نحتاجُ دوما إلى مراجعة لائحة الجرائم ومراعاة ألا تؤدِّي حريةُ التعبير إلى الإخلالِ بالتّوازن الهشِّ الذي يعرفه المجتمع. بطبيعة الحال، تعتبر جرائمُ الإرهاب من نوع الجرائمِ التي لا تُغتَفَرُ ولا نتخيَّلُ وجودَ مُبرِّرٍ لها. ولكنّنا نسعى في الواقع إلى حماية “حريّةِ الرّأي والتَّعبيرِ من الابتذال” وحماية المجتمع من تأليبِ فئاتٍ على فئاتٍ أخرى، من أجل خلق ضمانات العيش المشترك.المفارقةُ هي أنّه كلما تعاظمت الصراعات الاجتماعية على أسس غير ديمقراطيّةٍ – دون أن ينتبه السياسيون إلى مخاطرها- تعاظم الخطرُ على حرية التّعبيرِ ذاتِها، سواءً كانت حرية الرأي المدعومِ بالحجج أو حرية التعبير الفنّي التي قد تتعرَّضُ لوجوه لتضييقٍ متزايدٍ كنّا في غنى عنها. والنتيجة هي أنّ أعرق الدّول الديمقراطية قد تتحوَّلُ من مجتمع المواطنة إلى مجتمعِ العشائرِ.