حرية العمل الجمعوي بالمغرب في الميزان(إبراهيم بايزو).1
تروم هذه السلسلة من المقالات فحص المقتضيات القانونية التي تنظم الممارسة الجمعوية بالمغرب بنظارات المبادئ الدولية لحرية تكوين الجمعيات. ولهذه الغاية سنخصص الجزء الأول منها لتوضيح المرجعيات المؤسسة لهذه المبادئ قبل أن ننتقل في الجزء الثاني لبيانها.
ولأننا سنشتغل على الحالة المغربية، فقد بات لزاما علينا أن نخصص الجزء الثالث من السلسلة لعرض التشريعات الوطنية موضوع الفحص. وهكذا، سوف نخصص الجزء الرابع لتشخيص المصادر التشريعية والتنظيمية للعراقيل والأعطاب التي تكبل النشاط الجمعوي بالمغرب.
أولا: المرجعيات الدولية والإقليمية لحرية تكوين الجمعيات:
تشكل الشرعة الدولية لحقوق الانسان المصدر الرئيس لما اصطلحنا عليه بالمبادئ الدولية لحرية تكوين الجمعيات. واعتبارا لكون المغرب عضوا في عدد من المنتديات والمنظمات الإقليمية، فقد بات -والحال هاته- طرفا ملتزما بما يصدر عنها من اتفاقيات وإعلانات في مجال حقوق الانسان. وبناء عليه، ستناول -فيما يلي من فقرات- المرجعيات الدولية لحرية تكوين الجمعيات مركزين على تلك التي تبناها المغرب وصدق عليها. على أن نتناول المرجعيات الإقليمية في المقال الموالي.
- 1- المرجعيات الدولية:
تتحدد أهم الإعلانات والعهود الدولية ذات الصلة بحرية تكوين الجمعيات التي صدق عليها المغرب في ستة مواثيق هي: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية،[1] والاتفاقية الخاصة بوضع اللاجئين،[2] والاتفاقية الدولية للقضاء على كافة أشكال التمييز،[3] واتفاقية حقوق الطفل[4] وأخيرا، إعلان المدافعين عن حقوق الإنسان.
وفيما يلي، نستعرض ما يتصل بموضوعنا من مواد وفصول هذه الاتفاقيات:
تشدد المادة العشرون من الإعلان العالمي لحقوق الانسان على أن “(1) لكل شخص الحق في حرية الاشتراك في الجمعيات والجماعات السلمية، وأنه (2) لا يجوز إرغام أحد على الانضمام إلى جمعية ما.” ولا يجيز هذا الصك أي مساس بهذا الحق حي يؤكد في مادته الثانية على أن “لكل شخص حق التمتع بجميع الحقوق والحريات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أي نوع، ولا سيما بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي سياسيا أو غير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أي وضع آخر. وفضلا عن ذلك لا يجوز التمييز على أساس الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي للبلد أو الإقليم الذي ينتمي إليه الشخص، سواء كان مستقلا أو موضوعا تحت وصاية أو غير متمتع بالحكم الذاتي أو خاضعا لأي قيد آخر على سيادته. «
واستنادا لهاتين المادتين، تعتبر الحق في تكوين الجمعيات – من منظور الشرعة الدولية لحقوق الانسان -من الحقوق الفطرية للإنسان التي لا يجوز المساس بجوهرها تحت أي ظرف أو مبرر.[5]
ومن جهته، يؤكد العهد الدولي الخاص للحقوق المدنية والسياسية على أن “لكل فرد الحق في حرية تكوين الجمعيات مع آخرين، بما في ذلك حق إنشاء النقابات والانضمام إليها من أجل حماية مصالحه.” وأنه “لا يجوز أن يوضع من القيود على ممارسة هذا الحق إلا تلك التي ينص عليها القانون، وتشكل تدابير ضرورية، في مجتمع ديمقراطي، لصيانة الأمن القومي أو السلامة العامة أو النظام العام أو حماية الصحة العامة أو الآداب العامة أو حماية حقوق الآخرين وحرياتهم.”
وعلاوة على تأكيدها على ما سبق، فإن هذه المادة تضيف عنصرا في غاية الأهمية. ويتعلق الأمر باشتراط التنصيص والضرورة في المجتمع الديمقراطي كشرطين يتعين استفائهما –على وجه التلازم- في أي إجراء تتخذه السلطات في سياق تنظيم ممارسة هذه الحرية.
وتأكيدا على الطابع الفطري لهذا الحق، ألزمت المادة الخامسة عشرة من الاتفاقية الخاصة بوضع اللاجئين الدول الأطراف فيها بمنح اللاجئين المقيمين بصورة نظامية في إقليمها، بصدد الجمعيات غير السياسية وغير المستهدفة للربح والنقابات المهنية، أفضل معاملة ممكنة تمنح، في نفس الظروف لمواطني بلد أجنبي.[6] ووفقا لهذا التنصيص، فإن المغرب-كباقي الدول المتعاقدة في هذه الاتفاقية- ملزم بالعمل على توفير الشروط القانونية اللازمة لضمان حق اللاجئين والمقيمين في أراضيه بصورة نظامية في ممارسة حرية تكوين الجمعيات غير الربحية للأغراض غير السياسية بما في ذلك حقهم في تأسيس النقابات المهنية أو الانتماء إليها.
وفي سياق نزع المشروعية الأخلاقية والقانونية عن أي اجراء مهما كان مصدره من شأنه أن يتوسل التمييز لتقييد حق الأفراد في حرية تكوين الجمعيات، أكدت المادة الخامسة من الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز أنه: “إيفاء للالتزامات الأساسية المقررة في المادة الثانية من هذه الاتفاقية، تتعهد الدول الأطراف بحظر التمييز العنصري والقضاء عليه بكافة الأشكال، وبضمان حق كل إنسان دون تمييز لا سيما بصدد التمتع بالحقوق التالية: ] ومن بينها[ الحق في حرية الاجتماع السلمي وتكوين الجمعيات السلمية أو الانتماء إليها….”[7]
وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن وصف “السلمية” يصبغ المشروعية على كل نشاط جمعوي لا يتوسل العمل المسلح ولا يدعو إليه. وهذا ما ذهبت إليه المحكمة الأوربية التي أكدت أنه “من الناحية العملية، فإن النوع الوحيد من الأحداث الذي لا يمكن وصفها بالسلمية هي تلك التي ينوي منظموها والمشاركون فيها استخدام العنف.” وعلى هذا الأساس، يجب تفسير مصطلح سلمي ليشمل السلوك الذي قد يزعج أو يسيء للأطراف المعارضين للأفكار أو الآراء المرغوب في ترويجها بما في ذلك السلوك الذي يعيق أو يعرقل بشكل مؤقت أنشطة أطراف ثالثة.[8]
ولا تقتصر التزامات الدول على ضمان حرية تكوين الجمعيات للراشدين من مواطنيها والمقيمين في أراضيها؛ بل بات من الواجب عليها بموجب التزاماتها في إطار اتفاقية حقوق الطفل أن تعمل على توفير الضمانات اللازمة لتمتع الأطفال كذلك بهذا الحق وفق الشروط ذاتها.
وفي هذا السياق، تنص المادة 15 من الاتفاقية المذكورة على وجوب أن “تعترف الدول الأطراف بحقوق الطفل في حرية تكوين الجمعيات وفي حرية الاجتماع السلمي. مشددة على أنه ‘لا يجوز تقييد ممارسة هذه الحقوق بأية قيود غير القيود المفروضة طبقا للقانون، والتي تقتضيها الضرورة في مجتمع ديمقراطي لصيانة الأمن الوطني أو السلامة العامة أو النظام العام، أو لحماية الصحة العامة أو الآداب العامة أو لحماية حقوق الغير وحرياتهم.”[9]
وإذا كان تأكيد الاعلان المتعلق بحق ومسؤولية الأفراد والجماعات وهيئات المجتمع المدني في تعزيز وحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية المعترف بها عالميا المعروف بإعلان حماية المدافعين عن حقوق الإنسان، على الحق في حرية تكوين الجمعيات في سياق الدفاع عن حقوق الانسان وتعزيز الحريات الأساسية تحصيل حاصل، فإن بتنصيصه على أنه “لغرض حماية وتعزيز حقوق الانسان والحريات الأساسية، يكون لكل فرد الحق بمفرده وبالاشتراك مع غيره وعلى الصعيدين الوطني والدولي في الالتقاء أو التجمع سلميا، وتشكيل منظمات أو جمعيات أو جماعات غير حكومية أو الانضمام إليها والاشتراك فيها، والاتصال بالمنظمات غير الحكومية أو بالمنظمات الحكومية الدولية،”[10] يضيف عنصرا في غاية الأهمية هو حق الأفراد والمنظمات في الاتصال بالمنظمات الحكومية وغير الحكومية الوطنية والدولية
وهذا العنصر جرى تأكيده بتفصيل في المادة السادسة الموالية، التي نصت على “حق كل فرد بمفرده وبالاشتراك مع غيره في معرفة المعلومات بشأن جميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية والتماسها والحصول عليها وتلقيها والاحتفاظ بها، بما في ذلك إمكانية الحصول على المعلومات المتعلقة بكيفية إعمال هذه الحقوق والحريات في النظم التشريعية أو القضائية أو الإدارية الوطنية، وحرية نشر الآراء والمعلومات والمعارف المتعلقة بجميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية وحرية نقلها إلى الآخرين، وإشاعتها بينهم، وفق ما تنص عليه صكوك حقوق الإنسان وغيرها من الصكوك الدولية المنطبقة، دراسة ومناقشة وتكوين واعتناق الآراء بشأن مراعاة جميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية في القانون وفي الممارسة العملية على السواء، واسترعاء انتباه الجمهور إلى هذه المسائل بهذه الوسائل وغيرها من الوسائل المناسبة.“[11]
خلاصة:
تلخيصا لمجمل ما ورد في هذه المقتضيات، يمكننا استنادا للشرعة الدولية لحقوق الانسان القول:
- إن حق الأفراد في تكوين الجمعيات السلمية مع آخرين حق فطري، ولا تجوز مصادرته أو المساس بجوهره تحت أي مبرر أو مسوغ.
- إن حق الأفراد في تكوين الجمعيات يمتد شكلا ليشمل حقهم في تكوين النقابات والجمعيات وأنواع أخرى من منظمات المجتمع المدني، ومضمونا ليشمل جميع الأغراض المشروعة بما فيها الأنشطة المرتبطة بتعزيز حقوق الإنسان والحريات الأساسية وحمايتها أو التي تكتسي طابعا سياسيا.
- إن جميع الأشخاص-بمن فيهم المقيمين واللاجئين- يجب أن يتمتعوا بحرية تكوين الجمعيات.
- إن القيود القانونية التي يجوز فرضها على ممارسة هذا الحق يجب – على وجه التلازم- أن ينص عليها القانون صراحة، وأن تكون ضرورية في مجتمع ديمقراطي.
وارتباطا بشرط الضرورة، نتوقف لدفع الالتباس بشأن ذريعة شائعة في الممارسة الإدارية لعدد من الحكومات حيث إنها عادة ما تزعم أن ما تتخذه من إجراءات مقيدة لحقوق الأفراد في تكوين الجمعيات يعد ضروريا لتعزيز مسؤولية هذه الأخيرة، أو لحماية السيادة الوطنية والأمن القومي، أو لمناهضة الإرهاب. ورغم الوجاهة التي قد تبدو عليها هذه الذريعة، فإن طواعية ألفاظها وعموميتها تجعلها عرضة لسوء الاستخدام وللتوظيف السياسي في تكبيل نشاط المعارضة السياسية.
وفي هذا السياق، لاحظت الأمم المتحدة، أنه تحت ذريعة الأسباب الأمنية، يمنع المدافعون عن حقوق الإنسان -في عدد من الدول- من مغادرة مدنهم، كما يتم استدعاؤهم من قبل الشرطة وغيرها من أجهزة الأمن وترهيبهم وأمرهم بوقف جميع أنشطتهم في مجال حقوق الإنسان. وقد حوكم بعضهم وأدين بموجب تشريعات أمنية مبهمة وحكم عليهم بأحكام سجن قاسية. وتوظيفا لهذه الذرائع، عادة ما يتم اقفال منظمات لأتفه الأسباب، أو وقف مصادر التمويل عنها أو الحد منها بصورة غير ملائمة، علاوة على تعطيل الجهود المبذولة لتسجيل منظمات حقوق الإنسان بشكل بيروقراطي متعمد.[12]
ومهما يكن، فإن المخاوف المشروعة للحكومة لا
تبرر في حد ذاتها التدخل لتقييد الحق في حرية تكوين الجمعيات إلا إذا كان هذا
التدخل ضروريا في مجتمع ديمقراطي. وبعبارة أخرى، لا يمكن تبرير القيود التي ينص
عليها القانون، والتي تبلغ حد التدخل في حرية تكوين الجمعيات لمجرد ارتباطها
بمصالح شرعية للحكومة، بل يجب أن تكون ضرورية في مجتمع ديمقراطي. “واختبار
معنى “ضرورية” يعني أن أية إجراءات تتخذ في هذا الإطار يجب أن تكون
متناسبة مع الهدف المرغوب في تحقيقه، وأن يتم فرضها على المدى الذي لا يزيد عن
الضرورة القصوى، ويجب أن تكون هناك حاجة اجتماعية ملحة للتدخل.”[13] ولتحديد ما إذا كان
تدخل الحكومة أمرا ضروريا، من المهم النظر فيما إذا كانت هناك وسائل متاحة أقل
تدخلا لإنجاز الهدف المنشود.
[1] – صادق عليها المغرب بتاريخ:03/05/1979 ونشرت بالجريدة الرسمية بموجب الظهير الشريف رقم 1.79.186 بتاريخ: 08/11/1979؛ ج. ر. عدد 3525 بتاريخ: 21 ماي 1980؛ ص: 631.
[2] – الظهير الشريف رقم: 271-57-1؛ ج. ر. عدد: 2341، بتاريخ: 26 غشت 1957؛ ص: 1978.
[3] – صادق المغرب عليها بتاريخ: 18/12/1970، مسجلا تحفظه على الفصل 22 الثاني والعشرين منها.
[4] – صادق عليها المغرب بتاريخ: 21/11/1996 بموجب الظهير الشريف رقم 1.93.362 مع التحفظ على أحكام المادة الرابعة عشرة؛ ج. ر. عدد: 4440 بتاريخ: 19 دجنبر 1996؛ ص: 2847.
[5]– الحق الفطري هو الحق غير القابل للتقييد في جوهره كونه تعبيرا /انعكاسا لسلطة أو قدرة مستمدة من الطبيعة الملازمة للإنسان. وهو ما يجعل كل تقييد من شأنه أن يعيق جوهر هذا الحق أو ينتقص منه باطلا كونه اعتداء على الطبيعة الانسانية للفرد.
[6] – المادة الخامسة عشرة من الاتفاقية المذكورة.
[7] – المادة الخامسة من الاتفاقية المذكورة.
[8] – مبادئ توجيهية بشأن حرية التجمع السلمي، الطبعة الثانية، ص:30.
[9]– م. س، ص: 2849.
[10] – المادة الخامسة من الإعلان.
[11] – م. ن؛ المادة السادسة من الاتفاقية المذكورة.
[12] – الأمم المتحدة: صحيفة الوقائع رقم: 29: حماية حق الدفاع عن حقوق الإنسان، ص: 12-13.
[13]– OSCE/ODIHR، المبادئ التوجيهية الأساسية لحرية تكوين الجمعيات مع التأكيد على المنظمات غير الحكومية، ص: 4. نقلا عن: الحركة العالمية من أجل الديمقراطية، تقرير الدفاع عن المجتمع المدني- النسخة الثانية، ص:24.