حمو النقاري وجهوده المنطقية في الجامعة المغربية(أحمد الفراك)_1_
تقديم:
ممن مميزات الدرس الفلسفي المغربي أنه درس عريق، إذ يعود في بداياته إلى الاطلاع المبكر للعلماء المغاربة على التراث الفلسفي اليوناني وشروحه العربية (مع ابن سينا والفارابي والغزالي وابن رشد وابن باجة وابن طفيل)، ومنه الدرس المنطقي حيث تم استثماره في إنتاج المعرفة العلمية في مجموعة من الحقول العلمية: العقيدة وأصول الفقه والبلاغة وغيرها، ولا تزال الخزانة المغربية تحتفظ بثروة مخطوطة من النصوص الفلسفية والمنطقية التي تفاعلت بشكل مبكر مع الفلسفة اليونانية، وخاصة المنطق[1]، حيث رد علماؤنا الكبار تلك الفتوى المشتهرة في تحريم الاشتغال بالمنطق، بل شجعوا الاشتغال بالمنطق والفلسفة جنبا إلى جنب مع باقي العلوم والمعارف، ونظموا منظومات وأرجوزات كثيرة في تعلم المنطق وتعليمه، وجعلوه ضمن البرامج التعليمية المعتمدة منها[2]. وإن أهمل الباحثون الأجانب[3] والعرب[4] جهود المغاربة في المنطق.
في المكتبة الحسنية والمكتبة الوطنية بالرباط نجد نسخا نادرة جدا، مثل “كتاب أفلاطون، وفيه تصحيحات جابر وأقواله”، لأبي موسى جابر بن حيان الكوفي (ت200ه)، وكتاب “حكم فلاسفة اليونانيين لذي القرنين” لمؤلف غير مذكور، ولعله كتاب: “السياسة في تدبير الرياسة” لأرسطو، وكتاب قانون السياسة في تدبير العقل والرياسة” لأرسطو(322ق.م)، ومقالة في علم الفراسة لأرسطو، وكتاب العشرة مفاتيح” لديموقريطس الفيلسوفي (459 ق.م)،و”الشفاء في الحكمة” لابن سينا (ت428ه)، و”مقاصد الفلاسفة” للغزالي (ت505ه)، ومنها كتاب “أسهل الطرق إلى فهم المنطق” للحسن بن علي الماجري (ت668ه) وهو أول مغربي مسلم كتب في المنطق الصوري، وإيساغوجي (الكليات الخمس) لأثير الدين الأبهري (ت663ه)، وإيساغوجي لإبراهيم البقاعي (ت885ه)، و”الكليات في المنطق” لابن البناء العددي المراكشي (ت721ه)، وتحرير القواعد المنطقية في شرح الرسالة الشمسية لقطب الدين محمد الرازي البويهي المعروف بالقطب التحتاني (ت766ه)، والخريدة في المنطق لعبد الرحمن بن الحاج السلمي (ت1232ه)، بالإضافة إلى عشرات الشروح والتقييدات والتعليقات على نظم السّلم المنورق وإيساغوجي والشمسية وعلى غيرهم، وعدد كبير من النصوص ضمن تملُّكات العلماء والأعيان المغاربة.
هذا عن أصالة البحث الفلسفي والمنطقي في المغرب، فماذا عن الدرس الفلسفي والمنطقي اليوم؟
أولا: المنطق في الجامعة المغربية
لا شك أن هناك جهودا كبيرة من أساتذة وباحثين بُذلت -وما تزال- في سبيل استئناف الدرس المنطقي في الجامعة المغربية[5]، سواء منها التي أوقفت المنطق على المحصول القديم (تقليد بيداغوجي في جميع المدارس العتيقة) أو تلك التي انفتحت على الدرس المنطقي المعاصر، إلا أن مرحلة الثمانينات إلى اليوم عرفت تقدما غير مسبوق بفضل مجهودات المدرسة المنطقية التي يعد الأستاذ طه عبد الرحمن أبرز روادها، رغم ما كان يكابده من عوائق من طرف دعاة التقليد وضحايا الإديولوجيا الإقصائية، يقول عن هذه المعاناة “قمتُ بتدريس مادة المنطق بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط رغم ما كنت أجده من صعوبات وتحديات في تطبيق برنامجي في المنطق داخل الجامعة، وخصوصا أنه لأول مرة يُدرَّس ويُعرَّب المنطق الحديث في الكلية، فساهمت بقوة في ترسيخ تدريس علم المنطق داخل الجامعة المغربية وفي تعريبه”[6]، كما أضاف في اللسان والميزان “شعرنا حينذاك بأتن عبئا ثقيلا يتوجب علينا النهوض به كاملا، وهو “إخراج التدريس المنطقي العربي بالجامعة المغربية من صورته التقليدية والمضيقة إلى صورة حديثة وموسعة، ولما كان القيام بهذا الواجب على أتمه يفضي حتما إلى إحداث منعطف جديد في تدريس المنطق بكليتنا يفصل بين جيلين اثنين: جيل المنطق التقليدي وجيل المنطق الحديث، فما أن أبدينا الاستعداد لتولي هذه المهمة في جانبيها التّحديثي والتّوسيعي، حتى اصطدمنا بعقبات متواليات، بعضها واجه إرادتنا في التحديث وبعضها الآخر واجه إرادتنا في التوسيع”[7].
صيحة طه عبد الرحمن هاته التي ضمنها مقدمة كتابه “اللسان والميزان” تلقفها حمو النقاري مستوعبا ومُبدعا، ومعه ثلة من الأساتذة والباحثين وما لا يحصى من الطلبة في الجامعات العربية والأجنبية. جنبا إلى جنب جهود نخبة معتبرة من الباحثين المتميزين، نذكر منهم ابن مدينة القدس الدكتور نبيل الشهابي أستاذ المنطق وفلسفة العلوم، بكندا، وبالولايات المتحدة الأمريكية، قبل انتقاله إلى التدريس بكلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط، وله بها عدة إسهامات تضاهي في جدتها ودقتها إنتاجات كبار المتفلسفة العرب، وتشهد له دراساته العلمية ومنها ما نشر بمجلة “البنية المغربية”، ودراسات في قضايا التحليل النفسي. وقد التحق بكلية التربية؛ قسم التفسير (الفلسفة) بجامعة طرابلس، أوائل الثمانينيات، ومنه إلى الآخرة رحمه الله. ويعتبرُه طه عبد الرحمن “أحد أهم أساتذة ومؤرخي المنطق، وأحد أبرز أعمدته في المجال العربي”، كما ذكره في إحدى مؤلفاته واصفا إياه بـ “الأستاذ المحنك”.
بالإضافة إلى جهود أساتذة المنطق في الجامعات المغربية أمثال المرحوم جمال الدين العلوي[8]، والأستاذ عبد العلي العمراني جمال[9]، وأستاذي محمد المرسلي، وأستاذي حسان الباهي، والمرحوم خالد بوزوبع فنان، والأستاذ يوسف تيبيس، والأستاذ سعيد بنتاجر، والأستاذ رشيد الراضي، وعشرات الباحثين ممن يتعذر إحصاء أسمائهم. وسأركز في هذه الورقة وبهذا المناسبة على جهود أحد الباحثين الجادين من هؤلاء المناطقة المغاربة، وهو أستاذي الدكتور المنطيق حمو النقاري الذي درست عنده وحدات المنطق خلال سنوات الإجازة والسلك الثالث.
[1] – زَهري، خالد. وبوكاري، عبد المجيد. فهرس الكتب المخطوطة في الحكمة والمنطق، مراجعة أحمد شوقي بينبين، منشورات الخزانة الحسنية، الرباط، ط1، 1432ه/2011م
[2] – انظر على سبيل المثال: اليوسي، الحسن. نفائس الدرر، تحقيق محمد يايا وأحمد الفراك، دار إقدام للنشر والتوزيع، إسطنبول، ط 1، 2023م
[3]– نيكولا ريشر في كتابه “تطور عند العرب” يعرض قائمة بأسماء الناطقة العرب منذ الفارابي حتى الأخضري، أي منذ القرن 9 م حتى القرن 16 م، دون أن يذكر من بينهم ولو منطقيا واحدا من المغرب الأقصى. تحتوي قائمته هذه على 166 منطقيا عربيا إسلاميا من بينهم 14 مفكرا أندلسيا كتبوا في المنطق ومفكرا واحدا من المغرب الأدنى وهو ابن خلدون وأربعة مفكرين من المغرب الأوسط، أي الجزائر الحالية وهم: محمد بن أحمد التلمساني (1379م) ومحمد بن مرزوق العجيسي التلمساني (1438م) وأبو عبد الله محمد بن يوسف السنوسي (1488) وأبو زيد عبد الرحمان بن محمد الأخضري (1575م). نيكولا ريشر، تطور المنطق العربي، ترجمة محمد مهران، دار المعارف، ط 1، 1985، صدر الأصل الإنجليزي سنة 1964م تحت عنوان: The Development of ArabicLogic.
[4]– فاخوري، عادل. منطق العرب من وجهة نظر المنطق الحديث، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط1، 1980م. حيث لا يحيل عادل فاخوري على أي منطقي مغربي، واعتبر السنوسي والأخضري وأمثالهم مجرد شُراح ولا أصالة لهم.
[5] – من الأنشطة الثقافية المتميزة التي تناولت موضوع الدرس المنطقي في الجامعة المغربية، اليوم الدراسي الذي تشرفت بحضوره، والذي نظمته الجمعية المغربيّة لتاريخ العلوم بتعاون مع كلّية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط تحت عنوان: الدراسات المنطقيّة في الجامعة المغربيّة اليوم، وذلك يوم 16 ماي 2015 بقاعة محمد المنوني بكلية الآداب والعلوم الإنسانية،جامعة محمد الخامس بالرباط. تنسيق فؤاد بن أحمد وسعيد البوسكلاوي. وقد غاب الأستاذ النقاري عن الحضور رغم ورود اسمه في البرنامج.
[6]– طه، عبد الرحمن. الحوار أفقا للفكر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ط1، 2013، ص 17-18
[7] – طه، عبد الرحمن. اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط 1، 1998م، ص 13
[8]– ولد جمال الدين العلوي رحمه الله بفاس سنة 1945، وحصل على دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة سنة 1974، واشتغل أستاذا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس إلى أن توفي عام 1992، وقد التحق الراحل باتحاد كتاب المغرب سنة 1976 كما ترأس هيئة تحرير مجلة كلية الآداب بفاس، من مؤلفاته: رسائل فلسفية: مقالات في المنطق لأبي الوليد بن رشد، مؤلفات ابن باجة، تلخيص السماء والعالم، رسائل فلسفية لأبي بكر بن باجة، المتن الرشدي: مدخل لقراءة جديدة…
[9]– باحث وأكاديمي مغربي، حاصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة السربون. عمل باحثا بالمركز الوطني للبحث العلمي، باريس. متخصص في دراسة الترجمات العربية القديمة لأورغانون أرسطو وخاصة في مصير هذه النقول عند فلاسفة الغرب الإسلامي. من مؤلفاته: “المنطق الأرسطي والنحو العربي”، و”برهان الدليل عند ابن رشد”.