دراسة الإجماع ونقده في النصف الثاني من القرن العشرين (حمادي دويب)
لا ريب أن الدعوة إلى الوحدة والإجماع في كل الحضارات والشعوب والأزمنة غاية مثلى، سعى إلى تحقيقها خاصة العلماء والمصلحون الذين يحلمون بالمدينة الفاضلة العادلة، غير أن الشعور بالحاجة الملحة إلى تراص الصفوف، كان ينبجس في الغالب في عهود يعمّ فيها التفرق وتسود الفوضى والانشقاق بين مكونات الأمة.
ولم تشذ نظرية الإجماع الإسلامية عن هذه القاعدة، إذ نشأت بداية من القرن الثاني، الذي شهد الكثير من مظاهر عدم التجانس في جميع المستويات الاجتماعية والسياسية والثقافية بسبب كثرة الأجناس وتباين ثقافاتها وأديانها وصراع المذاهب الإسلامية وغير الإسلامية.
إذن نشأ الإجماع استجابة لحاجة تاريخية اجتماعية، لكنه منذ بروزه كان عرضة للنقد، لأنه تأسس على مبادئ تتجاوز حدود البشر وإمكاناتهم، غير أن هذا النقد لم ينجح، ذلك أن الإجماع وبقية النظريات الأصولية قد استطاعت أن تضمن دوام البقاء، لأن من تبناها في المجتمع وفي السلطة السياسية كان بيده الحكم والنفوذ.
وهكذا غلّفت هذه النظرية عبر القرون بطابع التقديس والبداهة، ولم يعد إلى مراجعتها ونقدها سبيل. غير أن العصر الحديث وبداية من أواخر القرن التاسع عشر خاصة، بدأت الحركة النقدية للإجماع في أوساط مسلمة أو استشراقية، غير أن هذا النقد مشتت ولا توجد دراسة تحيط بأهم ما كتب فيه، وحتى دراسة كميل منصور عن الإجماع بالفرنسية بالرغم من قيمتها قد ظهر بعدها عدد مهم من الدراسات الناقدة للإجماع. وهذا ما دعانا إلى إنجاز هذا العمل الذي سعينا فيه إلى إبراز أهم ما كتب في الإجماع ونقده في النصف الثاني من القرن العشرين خاصة كما حاولنا التركيز على أهم المحاور التي تطرق إليها الناقدون المحدثون للإجماع. ورمنا كشف خلفيات موقفهم من الإجماع وأسسه.
لا شك أن الإلمام بكل مقومات الحركة النقدية للإجماع أمر عسير، لكن لعل أعسر منه الإحاطة بكل المواقف الناقدة وكل الكتب أو المقالات التي أبرزتها وعلى هذا الأساس، فإن عملنا سيتواصل حتى بعد إنجاز هذا العمل لسدّ الثغرات التي ظهرت لنا في أعمال لاحقة.
I- دراسة الإجماع في القرن العشرين
يمكن أن نعتبر أواخر القرن التاسع عشر تاريخ استهلال الدراسة النقدية للإجماع باعتباره مصدرا من مصادر التشريع الإسلامي غير أن ذلك العمل كان من خارج البيئة الإسلامية لأن من قام به هو أحد المستشرقين وهو سنوك هيرغرونج [1](Snouck Hurgronge).
وفي العقود الأولى من هذا القرن العشرين لا نجد –في حدود علمنا- دراسات نقدية شاملة ومتعمقة للإجماع وحتى دراسة علي عبد الرازق “الإجماع في الشريعة الإسلامية”[2] فإنها تقليدية عموما بالرغم من أن هذا الكاتب قد عدّ تأليفه “الإسلام وأصول الحكم” بداية النقد التاريخي في الإسلام[3].
وفي عقد الخمسينات من هذا القرن بدأت تظهر دراسات أكاديمية جامعية تطرقت إلى الإجماع من ذلك أطروحة وصفية للنظرية التقليدية للإجماع في الإسلام، خُصص الفصلان الأولان منها لحجية الإجماع من القرآن والسنة عند الأصوليين القدامى[4].
كما نشر كتاب نقدي مهم للباحث الباكستاني كمال فاروقي حول الإجماع وإغــلاق باب الاجتهاد، قدّم فيه في الجزء الأول الموقف التقليدي وردّ عليه في الجزء الثاني[5] ونشرت في هذا العقـد كتب استشراقية مهمّة تعرضت للإجماع ونقده[6].
وقد شهد عقد الستينات ظهور عدد كثيف من الدراسات الخاصة بالإجماع تتعلق بمفهومه أو حجيته أو وظيفته السياسية[7] غير أن أهمها مقال مطوّل لجورج حوراني حول حجية الإجماع في الإســلام السني[8] وكتاب ثان لكمـال فاروقي بعنوان “التشريع الإسلامي” جدّد فيه النظر في مسألة الإجماع من خلال نقد مفهوم عصمة الأمة[9].
وفـي السبعينــات مـن هــذا القـرن كانت البحوث المنشورة في موضوع الإجمـــاع رسائلــــه كثيــــرة ســـواء كانــت أطروحــات جامعيــــــــة[10] أو مقــالات[11] أو فصولا من كتب[12]. ونلاحــظ بداية الاهتمام بترجمــة فصول خاصة بالإجماع من مصادر أصولية قديمة.
ولعل أهم هذه الدراسات في نظرنا من حيث العمق والشمول والنظرة الناقدة الفاحصة؛ أطروحة الباحث الفلسطيني كميل منصور. ويمكن تلخيص تمشي هذه الأطروحة حسب المراحل التالية :
– مرحلة تكوين المفهوم أو ميلاده (ص.ص. 17-57)
– وظيفة الإجماع وسلطته في النظرية التقليدية (ص.ص. 59-138).
– الإجماع اليوم (ص.ص. 139-182).
وإذا كان هذا الباحث اقتصر على بحث إشكالية الإجماع داخل الإسلام السني فإنه قد طرق موضوعه بجدية من أهم مظاهرها الإحالات الكثيفة التي قام بها وجمعها في بيبليوغرافيا مفيدة في آخر بحثه.
أما الأطروحة الثانية المهمة في عقد السبعينات فهي للباحث ماري بارناند (ت. 1995) وتشتمل على قسمين :
1) قسم ترجمت فيه إلى الفرنسية فصل الإجماع في كتاب “المعتمد في أصول الفقه” لأبي الحسين البصري (ص.ص. 11-100).
2) قسم تحليل تاريخي يشتمل على فصلين :
أ- فصل عام بعنوان : إجماع الأمة الإسلامية (ص.ص. 101-125)
ب- فصل خاص بعنوان : الإجماع عند أبي الحسين البصري (ص.ص. 126-137).
وبوصولنا إلى عقد الثمانينات نلاحظ استمرار الدراسات الناقدة للإجماع وقد اهتم بعضها بالتأصيل النظري لهذا المصدر التشريعي في حين ركز البعض الآخر على مسائل تطبيقية تتعلق بهذا الأصل.
ولعلّ أهم هذه الدراسات –في نظرنا- مقال الباحث الشامي “وائل بن حلاق” حول حجية الإجماع في الإسلام السني[13] وهو يصرّح باعتزامه استكمال مساهمة مقال جورج جوراني المذكور آنفا.
ومن الجوانب الغائبة من هذه الدراسة التطرق إلى مواقف الشيعة والخوارج والمعتزلة المنكرين للإجماع. وهذا ما جعل الدراسات الخاصة بالإجماع عند الشيعة تظهر على أيدي باحثين شيعيين[14] ومع ذلك فلا نعدم بحوثا حاولت أن تنظر إلى مسألة الإجماع نظرة موضوعية مقارنة بين مواقف السنيين والمواقف الشيعية غير أنها بقيت تدور في فلك الأطروحات التقليدية وترمي أساسا إلى إثبات حجية الإجماع[15].
وفي تونس بدأت الجامعة التونسية في أواخر هذا العقد تهتم بدراسة الإجماع فخصص درس من دروس التبريز لدراسة إشكالية الإجماع اضطلع به أستاذنا عبد المجيد الشرفي[16] كما نوقشت أطروحة حول الإجماع عند ابن حزم في إطار شهادة الكفاءة في البحث[17]. وهكذا نلاحظ غياب الدراسات الجامعية النقدية لهذا الأصل في مستوى شهادتي التعمق في البحث ودكتوراه الدولة.
أما عقد التسعينات فإننا لم نلاحظ فيه دراسات نقدية للإجماع[18] وما نجده في المقابل هو الاهتمام بمفهوم الجماعة الذي يعتبر تواصلا لما ظهر في أواخر الثمانينات[19].
هكذا يمكن أن نعتبر عقد الخمسينات بداية المجهود النقدي في دراسة الإجماع، باعتباره مصدرا للأحكام الشرعية خاصة من خلال بحث كمال فاروقي وبحوث بعض المستشرقين وتدعم ذلك خاصة في الستينات والسبعينات فقد ظهرت في هذين العقدين أهم الدراسات الناقدة للإجماع على أيدي “جورج حوراني” و”كميل منصور” و”ماري برناند”، وفي الثمانينات وإن بقيت الدراسات حول الإجماع متوفرة فإن ما يسترعي النظر خاصة مقال “وائل بن حلاق” المشار إليه آنفا.
ونستخلص بعد العودة إلى الدراسات التي أحلنا إليها وغيرها أن أهم المحاور التي شغلت الدارسين هي أولا وأساسا إشكالية التأسيس النظري لسلطة الإجماع التي كان يعبر عنها قديما بحجية الإجماع[20] وإذا كانت ثلاثة مقالات فحسب موسومة بحجية الإجماع أو حججه[21] فإن أغلب المقالات الأخرى توقفت عند المسألة.
أما المسألة الثانية التي تطرقت إليها هذه الدراسات بدرجات من العمق والشمول متفاوتة فهي الإجماع بين النظرية والتطبيق[22] وكذلك مواقف رواد الإصلاح من الإجماع وتعريف الإجماع وهل الإجماع إسلامي الأصل أم أجنبي ؟
وهذه المحاور قد يخبر بعضها عن عدم ظهور الكثير من المحاور الجديدة في عصرنا إلا أن الأمر شكلي فحسب لأن المقاربات والمناهج التي وقع النظر بها إلى المحاور التي تحمل عناوين قديمة كـ”حجية الإجماع” اختلفت بشكل كبير عن مناهج القدامى.
[1] – انظر بهذا الصدد : Snouck Hurgronje : « Le Droit Musulman » dans Revue de l’histoire des religions (1898) et également « Œuvres choisies », édité par Bousquet et Schacht, Leiden, 1957
[2] – ظهرت بمصر سنة 1947.
[3] – انظر Lammens : « La crise intérieure de l’Islam », in. Etudes CLXXXVI,1926
[4] – راجع : M.Z.Madina, The classical doctrine of consensus in Islam, University of Chicago, 1957, (Thèse Doctorat reproduite sur microfilm).
[5] – انظر : Kamel Farouki : Ijmà’ and the gate of Ijtihàd, Karachi, 1954
[6] – انظر مثلا : Gibb, Modern Trends in Islam, Chicago, 1950
وقد ترجمه إلى العربية هاشم الحسيني : الاتجاهات الحديثة في الإسلام،
بيروت 1966.
وانظر أيضا : J. Schacht : The Origins of Muhammadan Jurisprudence, Oxford, 1959.
الفصل 8 : الإجماع والاختلاف ص ص 82-97.
وانظر أيضا : Louis Milliot : Introduction à l’étude du droit musulman, 1e éd., Paris, 1953.
وراجع (فصل الإجماع). pp. 106-115
Herman. F. Janssens : Un sens peu commun d’Ijmà’ chez Avicenne. Bulletin of the School of Oriental and African Studies. University of London, Vol XIV, part 2, 1952, pp. 378-380.
[7] – ارجع مثلا إلى :
– Pierre Rondot : Le fonctionnement de l’opinion et l’Ijmà’ « Moderne » en Tunisie, L’Afrique et l’Asie 4e trim. 60, 1962, pp. 17-24.
– Fazlur Rahmàn : Concepts Sunna Ijtihàd and Ijmà’, in the early period, Islamic Studies n° 1, 1962.
– Abdel Majid Turki : La notion d’Ijmà’ et son importance dans la pensée arabe moderne, I.B.L.A., 2e année, n° 110, 2ème trim., 1965.
– Marie Bernand (1) « Ijmà’ », in (E.I.), Tome 3, éd. 1965. pp. 1048-1052.
– Marie Bernand (2) L’ijmà’, critère de validité juridique in « Normes et valeurs dans l’Islam contemporain », Paris, 1966, pp. 68-79.
– Marie Bernand (3) l’Ijmà’ chez Abd Al Gabbàr et l’objection d’An Nazzàm, Studia Islamica XXX, Paris, 1969, pp. 27-38.
– Ahmad Hasan : The political role of Ijmà’, Islamic Studies, Vol VIII, June 1969, n° 2, pp. 135-150.
[8] – راجع : George Hourani : The Basis of Authority of Consensus in Sunnite Islam, S.I. XXI (1964), pp. 13-60 .
[9] – انظر : Kamel Faruki : Islamic Jurisprudence, Karachi, 1962.
[10] راجع أطروحة Camille Mansour : L’autorité dans la Pensée musulmane : Le concept d’Ijmà’ (consensus) et la problématique de l’autorité, Paris, 1975.
قام بمراجعة هذا الكتاب عبد الرحمان التليلي في :
Islam communautaire (Al Umma) concepts et réalités, Genève, 1984.
وانظر أيضا أطروحة :
Marie Bernand : L’accord unanime de la communauté comme fondement des statuts légaux de l’Islam d’après Abu l-Husayn al-Basri, Paris, 1970.
[11]– ارجع إلى :
Marie Bernand : Nouvelles remarques sur l’Ijmà’ chez Abd al Jabbàr, Arabica, XIX, 1972, pp. 78-85.
وانظر سلسلة مقالات أحمد حسن :
Ahmed Hasan : 1) The Argument for the authority of Ijmà’. Islamic Studies, vol. XI, March 1971, n° 1, pp. 39-52.
2) Modern Trends in Ijmà’ : I.S. vol. XIII, June 1973 n° 2 pp. 121-153.
3) The classical definition of Ijmà’ : the nature of consensus I.S. vol XIV, Winter 1975, n° 4, pp. 261-270.
وانظر أيضا كتابه :
The Doctrine of Ijmà’ in Islam a study of the Juridical principle of consensus. Islamabad, 1978.
[12] – ارجع مثلا إلى فصل “الإجماع في المذاهب الفقهية الأولى” ضمن كتاب أحمد حسن :
The early development of Islamic Jurisprudence, Islamabad, Pakistan, 1970.
وانظر أيضا :
Louis Gardet : 1 : L’Islam religion et communauté, Paris, 1970.
2) Les hommes de l’Islam, Approche des mentalités, Paris, 1977.
وكذلك :
Bravmann : The spiritual Back-ground of early Islam. Studies in ancient arab concepts, Leides, Brill, 1972.
[13] – Wael B. Hallaq : On the authoritativeness of Sunni consensus. Internationl Journal of Middle East Studies vol 18 nov. 1986, n° 4, pp. 427-454.
وهذا المقال ورقة مراجعة قدمت في الاجتماع السنوي الثامن عشر لجمعية الدراسات الشرق أوسطية، سان فرنسيسكو، 28 نوفمبر 1 ديسمبر 1986.
[14] – راجع مثلا فصل الإجماع في كتاب مهدي فضل الله : الاجتهاد والمنطق الفقهي في الإسلام.
وفي كتاب محمد رضا المظفر : أصول الفقه (جزءان) وراجع أيضا كتاب محمد صادق الصدر : الإجماع في التشريع الإسلامي. وانظر أيضا : أسد الله التستري المعروف بالمحقق الكاظمي : كشف القناع عن وجوه حجية الإجماع، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث.
[15] – ارجع إلى رشدي محمد عرسان عليان (أستاذ بكلية الآداب، جامعة بغداد) : الإجماع في الشريعة الإسلامية، مجلة المورد، المجلد 2، آذار 1973، العدد 1، ص ص 63-86,
[16] – راجع عبد المجيد الشرفي دروسه 1988 وكذلك فصله عن الإجماع بكتاب “الإسلام والحداثة”، تونس 1990، ص ص 162-169 ولعله من تأثير هذه الدروس ظهر مقال محمد الناصر النفزاوي : الإجماع وأهله في الفكر الأصولي الإسلامي، مجلة أطروحات العدد 14-1988، ص ص 16-23.
[17] – انظر قميرة بوسعيد : الإجماع من خلال كتاب الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم، أشرف عليها الأستاذ توفيق بن عامر ونوقشت في السنة الجامعية 1987-1988.
[18] – انظر أنموذجا من الدراسات التقليدية : زهير شفيق كبّي : الإجماع دراسة في فكرته من خلال تحقيق باب الإجماع في كتاب الجصاص : الفصول في الأصول.
وانظر أيضا :
Mohammed Y. Faruki : The Development of Ijmà’ : The Practices of the Khulafà Al Ràshdun and the views of the classical fuqahà. The American Journal of Islamic social sciences vol. 9, Summer 1992, Number 2. pp. 173-187.
[19] – انظر رضوان السيد : الأمة والجماعة والسلطة. دراسات في الفكر السياسي العربي الإسلامي. وانظر أيضا لنفس المؤلف : مفاهيم الجماعات في الإسلام، دراسات في السيولوجيا التاريخية للاجتماع العربي.
[20] – انظر استخداما آخر لمفهوم الحجية في فقه القانون عند عبد الحكيم أحمد شرف : بحث في حجية الأحكام في الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية، ص 9 وما بعدها.
[21] – هي مقال جورج حوراني وأحمد حسن ووائل بن حلاق وقد ذكرت سابقا.
[22] – راجع :
Carl. A. Keller : Réflexions autour de la théorie et de la pratique de Ijmà’. Islam communautaire (Al-Umma) concepts et réalités, univ. De Genève, Paris, 1984.