دور الحوار والتفاوض والحجاج في إدارة العلاقات الدولية(أبو بكر العزاوي)_2_
التفاوض والحوار والحجاج:
قدمت لمصطلح التفاوض la négociation)) مجموعة من التعريفات، المتنوعة والمختلفة، ويختلف تعريف هذا المصطلح، باختلاف رؤية الدارسين والباحثين المهتمين لهذا الموضوع، وعلاقة هذا باهتماماتهم وتخصصاتهم وخلفياتهم المعرفية والعلمية والعملية وقضايا أخرى لها صلة بالمهارات والخبرة المكتسبة وغيرها[1].
والتفاوض عموما، هو مجموعة من الإجراءات والعمليات التي يهدف من ورائها المفاوضون إلى التوصل إلى حلول مقبولة، لمشكل من المشاكل، او نزاع قائم او التوصل إلى اتفاق يساهم في تحقيق مصلحة طرفين او أكثر، تربطهم مواقف وقضايا مشتركة، وهو أيضا مجموعة من الإجراءات التواصلية التي تتم عبرها المواجهة والمقابلة بين أمور عديدة: المواقف، وجهات النظر، المصالح والإنتظارات…إلخ، وتندرج ضمن العلاقات الاجتماعية والسياسية والتجارية وغيرها.
التفاوض هو عملية، نسعى من ورائها إلى إيجاد حل للنزاعات، أو تسوية المعاملات بمختلف أنماطها وأنواعها، أو إنشاء اتفاقيات ومعاهدات بين الأفراد والجماعات، أما في مجال العلاقات الدولية، فإن التفاوض يهدف إلى إيجاد تسوية سياسية، ومجال التفاوض مجال واسع، ولكنه يهم بالأساس مجال العلاقات الدولية والسياسية الخارجية، ومجال المعاملات التجارية[2].
التفاوض يمكن اعتباره نوعا من النقاش، أو نمطا من الحوار والتواصل، الذي يتم بشكل استراتيجي ومنظم لحل مشكل، أو رفع خلاف، أو ايجاد حل النزاع، بشكل مقبول يرضي الطرفين، فكل طرف يسعى إلى إقناع الطرف الآخر بوجهة نظره، ويدفعه إلى قبولها والموافقة عليها.
وتكون هذه المفاوضات والمناقشات بين أفراد أو مجموعات، لديهم أهداف متباينة، وغايات مختلفة، يحاولون من خلالها وبواسطتها، التوصل إلى اتفاق، أو إيجاد حلول توفيقية للخلافات والنزاعات القائمة، وخاصة في مجال السياسة والأعمال.
وقد ذهب بعض الدارسين والباحثين إلى أن التفاوض مهارة تختلف بشكل كلي عن مهارة الحوار (dialogue ou conversation)، لأنها – أي مهارة التفاوض – تفترض وجود تباين (أو نزاع أو خلاف)، بحيث أن كل طرف من الطرفين، يحاول أن يحسم هذا النزاع والصراع، أو هذا التباين والخلاف لصالحه. [3] وهذا الرأي خاطئ في نظرنا، وغبر صحيح بتاتا. التفاوض هو نوع من الحوار، وهو نمط من النقاش والتواصل، له مجاله، وله بعض السمات والخصائص التي يختلف فيها عن أنماط الحوار الأخرى. فمصطلح التفاوض، يستعمل غالبا، وعادة، في مجال العلاقات الدولية والتواصل الدبلوماسي، والسياسة الخارجية، ويستعمل ايضا في المجال التجاري والاقتصادي (عمليات البيع والشراء). فالحوار هو المصطلح الأعم، وتندرج فيه أنماط عديدة ومتنوعة: الحوار التفاوضي وغير التفاوضي، الحوار اليومي، الحوار المباشر وغير المباشر، الحوار الاجتماعي، النقاش الفكري، الحوار الديني: المناظرات العلمية…إلخ [4].
مصطلح التفاوض يندرج ضمن حقل دلالي معجمي، يتضمن عددا من الألفاظ والمصطلحات: (الحوار- التواصل- الجدال- النقاش- التفاوض- المساومة – الإقناع…). ويبدو أن مصطلح التفاوض قريب جدا من مصطلح المساومة، ولهذا فإنهما يستعملان بكثرة في المجال التجاري، ومجال العلاقات الدولية. وكل مصطلح من هذه المصطلحات له خصوصيته وتميزه، أي أن هناك بعض الفروق الدلالية التي تميز بينها.
وإذا عدنا إلى مجال العلاقات الدولية، وهو المجال الذي يهمنا في بحثنا هذا، فإن نظرية التفاوض، تسعى إلى حل النزاعات الدولية، ورسم السياسات، وإدارة العلاقات الدولية، وإيجاد التوافقات، وإبرام المعاهدات، والوصول إلى الاتفاقات، وغير ذلك، ومعلوم أنها ليست النظرية الوحيدة التي تعتمد في هذا المجال، للقيام بالتسوية السياسية، وصناعة القرار الدولي والسياسة الدولية، هناك نظريات أخرى يلجأ إليها، منها نظرية الردع، ونظرية الصراع، ونظرية التحالفات، ونظرية الواقعية، ونظرية المباريات، وغيرها.[5]
ونشير بهذه المناسبة إلى أن عملية التفاوض، لها أركان وركائز أساسية، تعتمد عليها، ولا يمكن أن يكون هناك تفاوض، أو مفاوضة، في غياب هذه العناصر، أو هذه الأركان، وقد تفشل العملية تماما إذا غاب عنصر واحد من هذه العناصر. نذكر من هذه العناصر والأركان ما يلي:
- المهارة والقدرة التفاوضية.
- استعراض الخيارات والبدائل.
- القدرات المادية.
- التوقيت المناسب.
- التعرف على خصائص ومهارات الخصم، وأيضا مصادر قوته.
- العمل على بناء الثقة مع الخصم.
ونذكر من مهارات المفاوض أيضا، ومن الخصائص التي ينبغي أن تتوفر فيه: أن يعد المفاوض نفسه للقيام بالمفاوضة، وان يختار الاستراتيجية المناسبة، وان يكون لبقا وموضوعيا وواقعيا ومتزنا، وأن يكون له فهم ودراية جيدة لطبيعة العلاقات القائمة بينه وبين الأطراف الأخرى، وأن يستخدم الاسئلة بشكل جيد، وأن يكون ملما بقواعد الحوار، وضوابط التفاوض والنقاش والمساومة.
وتنقسم عملية التفاوض بدورها إلى مراحل عديدة، منها: تبادل المعلومات، تحديد المكاسب المتبادلة، المساومة، إبرام الاتفاق، تنفيذه…إلخ
لقد تحدث العلماء والباحثون الذين درسوا الدبلوماسية والتفاوض عن دور المعرفة والفن في إدارة العلاقات الدولية، وتسيير العلاقات الخارجية بشكل جديد، وأشاروا إلى هذا في التعريفات التي اقترحوها، والقواعد والضوابط التي وضعوها ، وأشاروا إلى أنماط عديدة من الدبلوماسية، فهناك الدبلوماسية القائمة على التواصل والإقناع والنقاش المؤدب، والمرتكزة على المنطق والمصلحة والمكاسب المتبادلة، وهناك الدبلوماسية القائمة على القوة والتهديد، وسياسة الإملاء والإرغام، واستعمال العنف والخشونة، وقطع العلاقات، وغير ذلك، والنمط الثاني ـ للأسف ـ هو المنتشر والغالب.
إن الدبلوماسية الأولى، يمكن نعتها بالدبلوماسية الحكيمة، وهي التي ينبغي أن تسود وتنتشر، لأنها تقوم على التفاوض بوصفه نمطا من الحوار والتواصل والنقاش المؤدب والسعي إلى الإقناع. وهنا أريد أن أشير إلى الدور الكبير الذي يمكن أن تُقدمه اللسانيات الحديثة في هذا المجال، وخاصة اللسانيات التداولية، والنظريات الحوارية والحجاجية. يمكن لهذه النظريات أن تقوم بضبط وتطوير عملية التفاوض، وخاصة في شقها اللغوي والتداولي، وأن تمكن المفاوض من أليات وتقنيات حوارية وحجاجية وتداولية تجعله ينجح في مهمته بشكل كبير، ويحقق الغاية المنشودة.
لقد أشرنا آنفا إلى نظريات عديدة: (نظرية الصراع، نظرية المؤامرة، نظرية الردع، نظرية التحالفات…. الخ)، ولكن أفضل هذه النظريات وأسماها، هي نظرية التفاوض، أو المفاوضة، لأنها تقوم على السلم واحترام حقوق الدول والمجموعات، واعتماد أسلوب الحوار والحجاج والإقناع.
إن التفاوض هو الأسلوب الذي يليق بالإنسان المتمدن، والمجتمعات المتحضرة، والدول الراقية والمتقدمة، والإنسان مدني بطبعه كما قال ابن خلدون.
ونعتقد أن ما كتبه الباحثون والدارسون حول عملية التفاوض، وعن أركانه وعناصره ومهاراته وشروطه وأنواعه ومراحله وغير ذلك، لم يعد كافيا الآن، ولم يعد فعالا ومؤثرا بشكل قوي وفعال. لقد آن الأوان لوضع نظريات حديثة للتفاوض، تستفيد ـ على الأقل في الشق اللغوي والتخاطبي والتداولي ـ من مكتسبات اللسانيات التداولية واللسانيات المعرفية، والنظريات الحوارية والحجاجية بمختلف أنواعها وأنماطها.
لقد قطعت اللسانيات الحديثة أشواطا مهمة، وأفرزت نماذج ونظريات لسانية غنية ومتميزة، يمكن أن نستفيد منها بشكل كبير في التفاوض والعمل الدبلوماسي، وفي إدارة العلاقات الدولية، وتوجيه السياسة الخارجية.
لقد أشرنا آنفا إلى أن التفاوض، يشكل أحد الوسائل المهمة التي يقوم عليها العمل الدبلوماسي، والدبلوماسية هي إحدى أدوات ووسائل السياسة الخارجية والعلاقات الدولية.[6]