رحيل محمد وقيدي: رائد أصول العلم بالعالم العربي الذي علّمنا أن “من حُرم الأصول حُرم الوصول” (إدريس أوهلال)
عَلَم آخر من أعلام النبوغ المغربي يرحل عنا في زمن عزّ فيه العُمق والإبداع.. محمد وقيدي فقيه الابستمولوجيا ورائدها بالعالم العربي بلا منازع. عرفته أستاذاً متميزاً وأنا طالب بشعبة علم الاجتماع بجامعة محمد الخامس بالعاصمة الرباط، ثم عرفته زميلاً متواضعاً مع طلبته القدامى في بضعة جلسات سَمَر فكري بمقاهي حي أكدال بمدينة الرباط أيضاً.. في تلقائية مواقف الحياة تتعرّف على الإنسان في تواضعه وعمقه الإنساني وتكتشف أنه أعمق بكثير من الأكاديمي الذي كوّنت عنه صورة الباحث والعالم والمفكر النمطية.
ارتبط اسمه بالابستمولوجيا، أو فلسفة العلوم كما يترجمها البعض، أو “أصول العلم” بالترجمة الأصيلة للفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن حفظه الله. كتب وترجم ونَشَر وحاضر ودرّس ودافع وناضل عن حاجة الجميع بمختلف تخصصاتهم إلى معرفة الأصول.. لأن “من حُرم الأصول حُرم الوصول”.. كتب “فلسفة المعرفة عند غاستون باشلار”، و”ما هي الإبستمولوجيا؟”، و”الإبستمولوجيا التكوينية في فلسفة العلوم”، و”الإبستمولوجيا التكوينية عند جان بياجيه”.
من الذكريات الجميلة التي احتفظنا بها من أيام الدراسة الجامعية معه تصنيفه العجيب لطلبته حسب تخصصاتهم، كان يسمي طلبة الفلسفة بالحمّاق، وطلبة علم الاجتماع بالمُهمّشين، وطلبة علم النفس بالمعقدين! أحيانا يكون نحت المفاهيم باللغة الدارجة للبلد أعمق وأوضح من نحتها باللغة الفصيحة.. ورأى الكثير من الطلبة في تصنيفه نكتة، لكن القلة القليلة فقط أدركت حينها عمق هذه “المفاهيم” ودلالتها على التمثلات الاجتماعية لهذه الحقول المعرفية الثلاثة وذكاء أستاذنا الكبير في معالجة هذه التمثلات بأسلوب النكتة وهو الخبير في الابستمولوجيا التكوينية والمُدرك لدور التمثلات كعائق أمام بناء المعرفة الجديدة والحاجة المعرفية إلى معالجتها ابتداء.
كان رحمه الله من الأوائل الذي أدركوا حاجة العقل إلى الأصول وحاجة كل طالب علم إلى تكوين صلب في أصول تخصصه، وليس من قبيل الصدفة أن كبار الباحثين والعلماء والمفكرين الذين نبغوا وأبدعوا في تخصصاتهم كان لتكوينهم الصلب في أصول تخصصاتهم (إبستمولوجيا التخصص) دور كبير في نبوغهم وإبداعهم.. ألم يقل الأوائل: “من حُرم الأصول حُرم الوصول”. مرة كتب عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، وهو من أساتذتي أيضا الذين تعلمت منهم “أصول علم الاجتماع” يقول، وهو يحكي عن بداية تجربته كطالب في الجامعة: “كانت الدروس في السوربون مُمِلَّة، فذهبنا نبحث عن معلمين كبار خارج أسوار الجامعة”. وكان من أقدار هذا العالِم الذي جدّد علم الاجتماع وجدّد أصوله أن التقى بعالم آخر مجدد هو غاستون باشلار، وكان مغموراً حين تعرف عليه وتعلم منه (تذكر: المعلمون الكبار كمصدر الضوء يوجدون في الظل)، لكن كان له فيما بعد شأن عظيم، فهو من أسس الابستمولوجيا (أصول العلم). القدر السعيد يبحث دائما عن ذوي الإرادات القوية، والكبريت الأحمر الذي يعز طلبه ليس هو وجود المعلمين الكبار وإنما صدق البحث والطلب، ومن شيخ الابستمولوجيا ومؤسسها غاستون باشلار تفهم سر نبوغ وإبداع مريده بيير بورديو الذي سيصبح شيخاً أيضاً في مجاله علم الاجتماع ومؤسسه الثاني بعد التأسيس الأول مع جيل الرواد دوركهايم وماركس وفيبر.. إنها الابستمولوجيا ومفعولها السحري.
لقد رحل رائد الابستمولوجيا بالعالم العربي، لكن روحه لم ترحل، ومن الوفاء لروحه أن نعمل بجد كل من موقع تخصصه على إدخال هذه الروح الأصولية للابستمولوجيا الى كل الكليات والمدارس العليا والتخصصات.