«رسائل من تحت الأرض» لدوستويفسكي: تشريح للعقول والأشياء القابعة في قعر النفس(معتز قاسم)
إمساك “دوستويفسكي” للقلم ليتغلغل في تشريح بعض النفوس عادةٌ مشهورة له في معظم ما كتب، فنجده هنا في “رسائله” يتسرب إلى نفسه وأعماقها؛ لأنها بالطبع نفس من النفوس الإنسانية الماثلة أمامه، كما هي ماثلة أمام غيره، ليجعل منها غرضًا للفحص والنظر، فهو يقوم بتقليب شخصية الإنسان الذي كأنه هو وغيره من الناس، وموقفه من النظر إلى (الآخر /القوة والجاه أو السلطة ..).كيف تقوم النفس بالتبرير؟
وكيف يقوم بها صراع لا يخبو أُواره من التفكير بالذات والآخر؟
لماذا أنا الذي أفسح الطريق؟
لماذا لا يفسح هو؟
أَلِأنه مهم؟
وما الأهمية وماذا سيحدث لو لم أفسح له؟
بل ماذا سيحصل لو أنني اصطدمت به كتفاً بكتف؟
لقد كانت أسئلة تلح بسطوتها وقوتها وجبروتها على “دوستويفسكي” وهو يحــــــلل أنمـــــاطًا من الشخصيات، ولكن بعـــــــض تفكير طويل وممض ومخيف اصطدم الكتف بالكتـــــــف، ولم يلتفــــت ذاك الذي كنت أخشاه وأُفسِــــحُ الطـــريق لـــه دائــــما.
في “رسائل من تحت الأرض” يتجلى “دوستويفسكي” ويبحر بعيدًا في التجريد، فهو لا يكاد يذكر شخصية ما حتى يعود قلمه ليطوي الصفحات تلو الصفحات الخالية من الفرد والمليئة بالمجموع الإنساني، الأسماء لا تدل على مُعيَّن بل هي رمز يستغرق كل من انطوت في داخله هذه الصفات، وهذه الطريقة في التفكير.
بل يكاد “دوستويفسكي” أن يكون راويًا من الخارج يصف ما حصل وما يحصل، والأشياء القابعة في قعر النفس لا تتغير ولا تتبدل؛ بسبب المجتمع؛ وبسبب النفس؛ وبسبب …
في الحقيقة إن العنوان يشي بدلالات متعددة فهذا (السطح /السقف) الذي يسكن تحته كثير من الناس، بل عامة الشعوب أقول يوجد كذلك نفوس تعيش تحت الأرض، ولو كانت هيئتها من الهيئة التي تدل على أنها من فوق الأرض.
إن المدقق في نمط الرواية ومغزاها ليلمح فيها –فيما أرى– وصفًا للعقول التي تسكن تحت الأرض وليس للفقراء، فكثير من الفقراء فوق السطح بالمعنى الحقيقي، وكثير من الناس تتقاسمهم الحياة بين جسد فوق السطح، وروح تحت السطح.
ثم لا شك أن “دوستويفسكي” يملك رسالة مهمة يبذلها لهذه الدنيا، ترفضُّ من قلمه، وما ملك من أوراق أثقلتها أحيانا كثيرة قبضته عليها عندما تأتيها نوبة الصرع ونوبة دق الدائنين على الباب..
والقارئ لهذا العَلَمِ الروسي لا يستطيع إلا أن يقرأ قراءة الحكيم، فيجعل من كلمات هذا الرجل دواء، وبلسمًا يطبب به بعض أمراض مجتمعاتنا المترامية المتقاذفــــة في دنيا الناس وأشــــباه النـــــاس..
وقد صدرت الرواية بترجمة جديدة عن الدار الأهلية في عمان.
يذكر أن فيودور ميخايلوفيتش دوستويفسكي المولود في 11 نوفمبر عام 1821، المتوفى في 9 فبراير عام 1881، واحد من أكبر الكتاب الروس، ومن أفضل الكتاب العالميين، وأعماله كان لها أثر عميق ودائم على أدب القرن العشرين.
شخصياته دائماً في أقصى حالات اليأس وعلى حافة الهاوية، ورواياته تحوي فهماً عميقاً للنفس البشرية، كما تقدم تحليلاً ثاقباً للحالة السياسية والاجتماعية والروحية لروسيا في ذلك الوقت.
العديد من أعماله المعروفة تعد مصدر إلهام للفكر والأدب المعاصر، وفي بعض الأحيان يذكر أنه مؤسس مذهب الوجودية (تيار فلسفي يميل إلى الحرية التامة في التفكير بدون قيود، ويؤكد تفرد الإنسان، وأنه صاحب تفكير وحرية وإرادة واختيار، ولا يحتاج إلى مُوجِّه).
ومن أشهر أعماله: “الإخوة كارامازوف” وتعد هذه الرّواية من قبل الكثير قمّة عطاءات الكاتب، وهي الرّواية الأخيرة له حيث فارق الحياة بعدها، و”الجريمة والعقاب”، و”الأبله”.