رمضان بين صحوة المعنى وصحوة الوجود واسترجاع الخيرية:(فؤاد هراجة)
لا جرم أن أفق المعنى يتشكل أثناء انبثاقه في الذهن ويتأثر كثيرا بالمعايشة، فالمعنى محايث للوجود ولا ينفك عن الوجود الذاتي، كما لا ينفك عن الزمان والمكان الذي يتبلور فيه؛ وبهذا يصبح المعنى رهين بزمن الذات وجغرافيتها وسياقها التاريخي. وعليه لا يمكن تصور غياب الذات في مساحات المعنى، ولا يمكن لأي شخص منا أن يكتب نصا لا يعكس حالته الوجودية، أو يعكس سياقه المعرفي، أو يعكس حالته التاريخية، ما عدا القرآن الكريم، الوحي المنزل في رمضان لأن مصدره خارج دائرة المكان والزمان والذوات، ولأن حكمته متجاوزة لها، فالمعنى الذي ينتجه العقل وهو يرتحل بين الحروف والكلمات والآيات والسور عبر “إقرأ“ يبقى اجتهادا وفهما وتأويلا يدور في دائرة التدبر التي تحتاج إلى وصل العقل بالقلب عن طريق كسر الأقفال استجابة لنداء الله تعالى “أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها”.
لكن، قد يعترض على هذه الدعوى معترض فيقول أن المعنى ثابت في القرآن ولا يتغير! والجواب نعم إن كان المقصود هنا ثبات اللغة ومراد الله سبحانه، وليس ثبات المعاني. لذلك أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن لا تنقضي عجائبه، ولا يَخْلُقُ على كثرة الرد، فهو يحمل الوجود في كليته متجسدا في علم الله الواسع بالخلائق، وحكمته العَلِيَّةٍ في الاصطفاء والعطاء، وسُنَّتِه الثابتة في الكون والتاريخ. غير أن كل هذه المواصفات التي حظي بها القرآن الكريم، والقداسة التي شملته في قلوب ونفوس المؤمنين، لم تجعل منه كتابا متعاليا عن الواقع وعن العقل وعن الحاجات وعن الضرورات الوجودية. فالقرآن منذ لحظة نزوله الأولى كان تجليا واضحا لارتباط الأرض وخليفة الأرض بالسماء، كما عبَّر نزوله من الحضرة الإلهية عن وجوب تنزيله في القلب ومن ثم في الواقع حتى يغدو الوجود قرآنيا، ويتحقق ذلك التفاعل العقلي والانفعال القلبي بين إرادة الله وإرادة خليفة الله في الأرض.
في هذا السياق لا يسعنا إلا أن نتساءل لماذا اختار الله شهر رمضان لإنزال القرآن؟ وما الحكمة من تخصيصه بالصيام والقيام؟ هل ثمة علاقة بين الذاكرة والوجود والمعنى، مثلما هناك علاقة بين ضياع الوجود في النسيان واللامعنى؟ هل دوران الحول في رتابة العيش والكد والتكاثر والسعي وراء كل ما هو دنيوي كفيل أن يدخلنا في دورة من الغفلة، فيأتي رمضان ليكشف عنا غطاءنا ونسترجع ببصر حديد معنى الوجود في كليته كما يصوره القرآن لا كما تَشَوَّهَ في قلوبنا وعقولنا وجوارحنا، ذلك الوجود الموصول بنداء الفطرة وخبر السماء، إذ لا معنى لوجود منقطع عن الموحد الذي أوجده. من هنا كانت حاجتنا لتجدد رمضان كل عام ليذكرنا بعد نسيان، وينبهنا بعد غفلة، ويوقضنا بعد غفوة، وهو نفس الدور الذي تقوم به الصلاة في يومنا، لكن كثرة التكرار قد تقلب العبادة عادة، فيأتي رمضان ليعيد المعنى إلى العبادة. إن وظيفة الشعائر الدينية تكمن في تحقيق الوصل، وتجديد اليقظة، بطريقة بالغة العمق في النفس والقلب والروح، وبانسجام وتفاعل مع تفاصيل الحياة دون انقطاع عنها.
وبما أن الأمة هي مجموع أفرادها، وبما أن الأفراد معرضون لفقدان معنى الوجود بسبب الغفلة، فإن الأمة حتما ستدخل حالة من التيه الوجودي، بالتالي لن يعود لكلمة أمة في الوجود أية معنى، وما يقع في غـ𓂆ـزة يسائلنا عن مغزى أمة القرآن. هكذا، فكما يتغير حال الفرد باكتشافه معنى وجوده فيسري في كيانه هذا المعنى، ويمنحه طاقة متجددة، قد تغفو الأمة ثم تستعيد وعيها حين تستيقظ ذاكرتها الجماعية وذاكرتها التاريخية، لذا كان رمضان تذكرة للأمة، إنه تكامل بين الوجود واليقين، وتكامل بين العقل الإرادة؛ عقل مسدد بالوحي وإرادة متحفزة به نحو كمالات الدنيا ومقامات الآخرة.
ولعل تعطيل الشهوات والرغبات عن طريق الصيام بإرادة حرة وربط الصائمين بالقرآن في رمضان من شأنه أن يحررهم من دوابيتهم فيستعيدوا يقظة قلوبهم ونباهة عقولهم ويسترجعوا حقيقة معنى الوجود، ومن تم تستعيد الأمة من خلالهم صحوتها وقومتها وتدرك وظيفتها الرسالية والاستخلافية، فتخرج من زمن العادة إلى زمن العبادة، ومن ضياع الوجهة إلى صحوة المعنى، و تبصم بعد طول غياب على صحوة وجود فردي وجماعي، يعيد للأمة هيبتها، ويعيد للأمة كرامتها، ويحرر أراضيها المقدسة من دنس المغضوب عليهم، بعد أن تكسر أغلال الاستعباد والإستبداد وتسترد إرادتها وسيادتها المسلوبة.
وحده رمضان قادر على إعادة صياغة الأمة، وعلى إعادة إيقاظ الأمة وهي تتطلع إلى السماء بداية لرؤية هلال العبادة والوحدة، واليقظة والتوبة، والجهاد والمجاهدة، ثم تتطلع نهاية لرؤية هلال العيد والنصر والأمل القريب، فما بين هلال الصيام وهلال العيد إلا أيام معدودات، تعلمنا في كل مناسبة رمضان أن هذه الأمة رغم ما تعرضت له من تزييف لمعناها ولوجودها تمتلك أكبر خزان روحاني على وجه الأرض بإمكانه أن ينسف بطاقته النورانية تاريخ الفساد وظلام الفساد وينقذ البشرية ويخرجها من ظلمات الأنعامية الدوابية إلى نور الفطرة الآدمية، فلا معنى للوجود إلا بالتعارف القرآني الذي يحمل معاني التواصل والتفاهم والتقارب والتعاون والتكامل وصلة الرحم الآدمية عملا بقوله تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”
في كل سنة يمد لنا رب العزة مائدة رمضان لتكون مغفرة ورحمة لأولنا وآخرنا وهي تنادينا ألم يان لكم أن تسترجعوا خيريتكم فأنتم كنتم ولا زلتم خير أمة أخرجت للناس، إن تمسكتم بحبل الله الممدود وأمرتم بالمعروف (العدل) ونهيتم عن المنكر (الظلم).