سنة التداول في القرآن الكريم (عسو بوعلام)
إن دراسة السنن التاريخية في القرآن الكريم لها أهميتها البالغة، لما تقدمه للإنسان من رؤية واضحة لمجريات الواقع البشري، وبما تحمله من فوائد جليلة وآثار عظيمة تعود على الأمم والشعوب والمجتمعات بالخير والفضيلة، فمعرفة هذه السنن وفقهها، واستيعابها من طرف الأمة، هو ما يمكنها من الدخول إلى صلب معترك الحياة، ويجعلها قادرة على فهم كل ما يجري في هذا العالم، ومواكبة متطلبات الرقي والتقدم، ومن ثم معرفة أين تضع قدمها؟ وما موقعها؟ وما دورها في هذه الحياة؟ ;ومن هذه السنن سنة التداول وهي موضوع هذا المقال .
التداول وتقلبات المسيرة التاريخية
إن سنة التداول هي السنة والقانون الذي يحكم المسيرة التاريخية في تقلباتها من حال إلى آخر، وهي السنة التي أشار الحق سبحانه وتعالى إليها في سورة آل عمران فقال:
{قد خلت من قبلكم سنن، فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين، هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين، ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون، إن كنتم مومنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله، وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين ءامنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين}([1]).
قال الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية “نداولها بين الناس من قرح وغم وسقم وغنى وفقر”([2]). وقال الزمخشري “”تلك” مبتدأ و”الأيام” بدل، ونداولها خبره، وهي كما يقال هي الأيام تبلى كل جديد” وقال “المراد بالأيام أوقات الظفر والغلبة، ونداولها نصرفها بين الناس نديل تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء، ومن أمثال العرب الأيام دول والحرب سجال”([3]).
فسنة المداولة تمثل قانونا تاريخيا حتميا، ويعتبر الوعي بها من الأمور الضرورة لدى الإنسان، ليفهم ما يجري في الدنيا من أفعال وأحداث، وما يحصل من نشاطات ومعطيات وما يقع من تغيرات وتقلبات، ولقد شاء الله تعالى أن تكون الحياة ذات دورات عديدة، وحالات مختلفة فمرة يكون الانتصار ومرة تكون الهزيمة وتارة يكون التقدم إلى الأمام وتارة يكون التقهقر إلى الوراء، هكذا تتبدل أحوال الناس وظروفهم، وتتغير أوضاعهم وفق هذه السنة التاريخية.
ولقد أشار ابن خلدون رحمه الله في مقدمته إلى هذه السنة فقال “من الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام وهو داء دوي شديد الخفاء، إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة، فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من أهل الخليقة، وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال كما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات فكذلك يكون في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول “سنة الله قد خلت في عباده””([4]).
العاقبة والنصر والبقاء لأهل الحق
فالأمم والحضارات تحكمها هذه السنة سنة تبدل الأيام لأن “الأيام ليس ملكا لأحد دون أحد وإنما هي متداولة بين الناس على اختلاف مذاهبهم، وانتماءاتهم العقدية”([5]).
إن سنة المداولة في حركة التاريخ توحي بأن العاقبة والنصر والبقاء لأهل الحق، رغم ما يبتلون به أحيانا من جوع وخوف وحرب وغيرها من الفتن والابتلاء، إلا أن العاقبة لهم، قال سبحانه وتعالى:
{فلا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون}([6]).
لكن ثمة إشارة وهي أن البقاء لا يكون دائما للأصلح إذا كان ضعيفا إنما يكون للأقوى والأقوى قد يكون هو الأصلح والأفضل، وقد يكون العكس، وقد ميز محمد قطب بين بقاء الحق وبقاء الباطل مستشهدا بقوله تعالى:
{فأما الزبد فيذهب جفاءا وأما ما ينفع الناس فيمكث في الارض}([7]).
فقال “ولكن البقاء وحده لا يحمل معنى الأفضلية في جميع الأحوال حتى تجتمع معه عوامل أخرى أساسية، وذلك إذا رجعنا إلى سنة الإملاء التي يملي بها الله للطغيان والكفر والفساد فيبقى في الأرض فترة تطول أو تقصر لحكمة يعلمها الله، ثم قال ومن هنا ينبغي أن نميز بين بقاء الحق وبقاء الباطل، فالأول هو البقاء للكيان الصالح، والثاني هو البقاء المؤقت للكيان الفاسد المنحرف رغم فساده وانحرافه، وقد يستمر هذا البقاء مدة طويلة فيزداد الإملاء له كلما زاد فساده، قال تعالى: {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغثة فإذا هم مبلسون، فقطع دابر القوم الذين ظلموا، والحمد لله رب العالمين}([8])“([9])
فبقاء واستمرار دولة الباطل مدة من الزمن يدخل ضمن سنة الإملاء والإمهال التي قررها القرآن الكريم في الكثير من آياته منها قوله تعالى:
{ولا تحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خيرا لأنفسهم، إنما نملي لهم ليزدادوا إثما، ولهم عذاب }([10]).
يقول سيد قطب “لقد يخيل للناس أحيانا أن واقع الحياة يخالف هذه الحقيقة التي يقررها العليم الخبير،
{بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو }([11])، وذلك في الفترات التي يبدو فيها الباطل منتفشا كأنه غالب، ويبدو فيها الحق كأنه مغلوب، وإن هي إلا فترة من الزمن يمد فيها الله ما يشاء للفتنة والابتلاء، ثم تجري السنة الأزلية الباقية التي قام عليها بناء السماء والأرض، وقامت عليها العقائد والثورات سواء بسواء”([12]). لهذا نجد النصوص القرآنية تحذر المؤمنين عموما من الركون إلى حالات اليأس والقنوط والضيق، وفقدان الأمل وتقول لهم “وسعوا من أفقكم التاريخي وانظروا الأشياء والأوضاع في حركة مستمرة… ولا تيأسوا ولا تقنطوا فإن الفراعنة إلى الانتهاء، وإن أوضاع الكفر إلى زوال، قال الله تعالى: {لا يغرنك تقلب الذين كفورا في البلاد، متاع قليل ثم مأواهم جنهم وبأس }([13])“([14]).
{ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم }([15]).
هذه الآيات الكريمات تحذر المؤمنين من اليأس، إذ كيف ييأسوا وهم يرون أمامهم سنة مداولة الأيام كما شهدها المسلمون في غزوة أحد ولازالوا يشاهدونها كل يوم.
{قد خلت من قبلكم سنن، فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة }([16]).
إن سنة المداولة تنبهنا إلى أن التاريخ في حركة دائمة، كما توحي لنا بالتجدد والأمل وتقرر “أن الأيام ليست ملكا لأحد، ومن ثم لا داعي لليأس والهزيمة، فمن هم في القمة ستنزل بهم حركة “الأيام” إلى الحضيض ومن هم في القاع ستصعد بهم الحركة نفسها إلى القمة”([17]).
المصادر والمراجع
- القرآن الكريم برواية ورش
- المقدمة، لابن خلدون (ت 808هـ)، تحقيق، درويش الجويدي، المكتبة العصرية، بيروت
- في ظلال القرآن، للسيد قطب، دار إحياء التراث، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت.
- الجامع لأحكام القرآن،لأبي عبد الله القرطبي (ت 671هـ)،دار الكتب العلمية، بيروت (1408هـ/1988).
- حركة التاريخ في القرآن الكريم، لعامر الكفيشي، دار الهادي، بيروت، ط.1، (1424هـ/2003م).
- تفسير التاريخ، علم إسلامي، لعبد الحليم عويس، دار الصحوة للنشر، القاهرة، (د.ت).
- الكشاف، للزمخشري (ت538هـ)، دار الكتاب العربي، بيروت، (د. ت).
[1]– سورة آل عمران، الآيات، 137-140.
[2]– الجامع لأحكام القرآن، ج.4، ص.140.
[3]– الكشاف، سورة آل عمران، الآية، 138.
[4]– المقدمة، ص.35.
[5]– التفسير الإسلامي للتاريخ، عماد الدين خليل، ص.251.
[6]– سورة آل عمران، الآية، 139.
[7]– سورة الرعد، الآية، 19.
[8]– سورة الأنعام، الآيتان،44-45.
[9]– حول التفسير الإسلامي للتاريخ، ص.55.
[10]– سورة آل عمران، الآية، 178.
[11]– سورة الأنبياء، الآية، 18.
[12]– في ظلال القرآن، ج.4، ص.2372.
[13]– سورة آل عمران، الآيتان، 196-197.
[14]– حركة التاريخ في القرآن الكريم، عامر الكفيشي، ص.310.
[15]– سورة يونس، الآية، 87.
[16]– سورة آل عمران، الآية، 137.
[17]– التفسير الإسلامي للتاريخ، عماد الدين خليل، ص.259.