سوانح إحيائية: الأمر والعمود والذروة(ميمون نكاز)
أما وقد أَفَقْتُ قبل حين، وأُذْهِبَ عني النوم، فقد عزم القلم علي -بعد رجاءٍ من النفس أن أعود إلى النوم لِمَا بي من رَهَقٍ وتعب أَبَاهُ القلم-
عزم علي القلم أن “أقوم قليلا من الليل” في كتابة أحرف “خفيفة” في عددها ومبانيها، ولكني أزعم أنها “ثقيلة” في دلالاتها ومعانيها، لكونها مستوحاة من مشكاة النبوة، وقد هَدَتْني النبوة وعلمتني أن بعض “الكلمات” قد تبدوا “خفيفة” على اللسان أو في المسطور من القول والكلام، لكنها تكون “ثقيلة” في ميزان “النظر”، وهي في “معيار “العمل” “أثقل”…
قلت في “مقالة سابقة”: قد كان الجهاد -بمنطوق الحديث الشريف- ذروةَ سنام الأمر والدين والإسلام لأنه “حصاد التحصيل الشرعي لمجاميع قيم الشريعة وأحكامها وامتثالاتها”، ولأن الله “عَلِيٌّ”، فإنه يريد من الإنسان أن يكون في “ذِرْوَةِ الاستجابة لمقتضى الحياة الطيبة في الحياة الدنيا”، ولن تطيب هذه الحياة إلا بتحرير الإنسان من كل “أَضْرُبِ الاسترقاق” و”أجناس الاستعباد”، حتى يصيرَ سيدَ نفسه في الوجود وفي بني جنسه على السواء، عبدا سويا خالصا لله رب العالمين، ذلك لأن (“العبودية المطلقة لله” -هي في التحقيق الإسلامي- “تحرير مطلق للإنسان”)؛ تحرير من عبودية “الأهواء” و”الأشياء” و”الإنسان” ومن كل شيء، وفي ذلك ضربة إسلامية قاصمة قاضية على ” مسارات تشييء الإنسان” و” تحييره في الوجود والحياة” (التحيير مفهوم مشتق من الآية الكريمة{كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران}[الأنعام ٧١] …
هذا “الجهاد التحريري” لا يصح ولا يعقل إلا برأسه وعموده لبلوغ “الذروة”، إنما هي ثلاثة: الرأس والعمود والذروة، فلا “ذروة ” إلا ب”عمود”، ولا “عمود” إلا ب”رأس”، والإسلام هو “الرأس”، والصلاة هي “العمود”، وذروتهما التصعيدية للإنسان في “مصاعد التكريم” و”معارج الأَكْرَمِيَّة” هي “الجهاد في سبيل الله”، أي “الجهاد في سبيل تحرير الإنسان”…
“رأس الأمر الإسلام”، فما الإسلام؟ الإسلام إنما هو ثلاثة: “وحي نصي وهديي” و”معقول ذلك من قبل الإنسان المكلف المستخلف”، و” موصول ذلك في الواقع العيني”، أقصد “جُمًاعَ حصائلِ الكسب الإسلامي الامتثالي في الواقع والتاريخ”، ذلك هو الإسلام عندما ننظر إليه من حيث “الوجود الظهوري”، هو مركب من “المطلق المقدس” و”النسبي الظني التاريخي”، وبينهما اختلاط وامتزاج نفتقر للفصل بينهما إلى ميزان واستبيان…
هذا “الرأس” له “عمود” يقوم عليه ويتعمده، إنه “الصلاة”، للصلاة أركان في” الفقه الأدنى” يعنى بها “فقهاء الفروع الدانية”، ولها “أركان عالية” في “الفقه الأعلى” يعنى بها “فقهاء الأصول العالية”، ينتظمها بلغة العقيدة والفلسفة والقيم والثقافة ناظم كلي واحد يتمثل في “توثيق الصلة وتمكين الاتصال”، فالصلاة “ميثاق إلهي” موضوع للإنسان من أجل تحقيق “مقصد الوصل والاتصال” : “وصل الإنسان بالله”، “وصل الإنسان بالذات والنفس”، “وصل الإنسان بمثيله الإنسان”، “وصل الإنسان بالوجود غيبا وشهادة”، بلسان آخر، “الصلاة عمود” يعمد به الأنسان إلى مكابدة الحق مكادحة، وإلى “مذاوقة الفطرة والجمال” في الكون والحياة، والصلاة أيضا توق وشوق ونزوع إلى الغيب الميقون المنتظر ، وفي الوقت ذاته – وفي “وصل” دون “انفصال”- هي فعل امتدادي شاهد في التاريخ {﴿قَالُوا یَـشُعَیبُ أَصَلَوتُكَ تَأمُرُكَ أَن نَّترُكَ مَا یَعبُدُ ءَابَاؤُنَا أَو أَن نَّفعَلَ فِی أَموَ ٰلِنَا مَا نَشَـؤا إِنَّكَ لَأَنتَ الحَلِیمُ ٱلرَّشِیدُ، قَالَ یـقَومِ أَرَءَیتُم إِن كُنتُ عَلَى بَیِّنَة مِّن رَّبِّی وَرَزَقَنِی مِنهُ رِزقًا حَسَنا وَمَا أُرِیدُ أَن أُخَالِفَكُم إِلَى مَا أَنهَاكُم عَنهُ إِن أُرِیدُ إِلَّا الإِصلَـاحَ مَا استَطَعتُ وَمَا تَوفِیقِی إِلَّا بِاللَّهِ عَلَیهِ تَوَكَّلتُ وَإِلَیهِ أُنِیبُ﴾ [هود ٨٨]…
هذا (المركب الثلاثي من “الأمر” و”العمود” و”الذروة”) هو الذي يصنع لنا “الإنسانَ المُسَوَّمَ” و”الأمةَ المُسَوَّمَة” كما أسميهما، استعارة مني واستدعاء لتوصيف “ملائكة الإمداد” بالتسويم…
هكذا أخرج الله الأمة للناس “مقيمة للصلاة” “مُعَمَّدَةً” و”مُسَوَّمَة”، وهكذا يجب أن تخرج من جديد، وذلك من أجل الناس، جميع الناس…