سوسيولوجيا القراءة وسيكولوجيا الكتابة في رحاب السيرة الفكرية لعبد الجبار الرفاعي.(محمد همام)
قدَّمتُ في القراءة الجماعية بنادي أبعاد مداخلةً حول كتاب( مسرات القراءة ومخاض الكتابة)، بعنوان: سوسيولوجيا القراءة وسيكولوجيا الكتابة. واستعملت مصطلحي سوسيولوجيا وسيكولوجيا باعتبار القراءة فعل قادم من الخارج إلى الذات، وأما الكتابة فهي فعل نابع من الذات ومنبثق عنها، ثم إن القراءة سرور ومسرات تبرز ملامحهما علينا وأما الكتابة فألم ومخاض لايحس بهما إلا الكاتب، لذلك قال بعض الكتاب: أنا لا أكتب ولكن أنكتب، وقال شاعر: أنا لا أقول الشعر ولكن الشعر(يقولني).
يقع الكتاب في 182صفحة من القطع المتوسط، ويتضمن 24 فصلا، سبعة في القراءة، وستة عشر في الكتابة. يقدم الكتاب خلاصة تجربة الرفاعي ورحلته الطويلة مع القراءة وممارسة الكتابة، من خلال تقنيات: التذكر، والحكي، والسرد، والوصف، والنقد، والسجال. وهو يقر في البداية أن الكتابة تتعلم بالكتابة، ولايتكون الكاتب بالتوصيات الساذجة والجاهزة، ولايعرف كاتب عظيم تخرج من مدارس التدريب على الكتابة. والكتابة مسبوقة بالقراءة، لذا فتجربة القراءة، وتجربة العلاقة بالمقروء، والكتاب أبرزه، هي تجربة حياة، لذا مازال الرفاعي يتذكر نصوصه القرائية المبكرة، من خلال قصص: المياسة والمقداد، و السندباد البحري، وعنترة بن شداد… ويذكر أن أول قصة قرأها أشعرته بسحر غريب للقراءة يسري في كيانه، وأغرقت ذهنه برحلة خيالية مدهشة بمعية بطل الحكاية. وهيمنت القراءة على مشاعره منذ تلك الفترة المبكرة. تشكلت مكتبته الأولى من قصص الأطفال ومن الكراسات. كان يحفظها، وكانت قليلة بالمناسبة، ويتقمص شخصية الحكواتي ليحدث بها أفراد أسرته وأصدقاءه. وكانت مدينته (الرفاعي) في الستينيات تفتقر إلى مكان لبيع الكتب. وعندما انتقل إلى مدينة(الشطر، جنوب العراق) بدأت ولادته الثقافية الفعلية الأولى، إذ كانت تتوفر على مكتبة عامة. وكان أول كتاب احتك به مباشرة هو: (لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث) لعالم الاجتماع العراقي علي الوردي، ولم يكن قد سمع به من قبل، وهو في مستوى الثانوي. ولكن ستتوطد علاقة الرفاعي طوال حياته العلمية بالمتن الفكري لعلي الوردي على أكثر من مستوى، وسيكون من أكثر المفكرين الذين استلهم منهم النقد والانفتاح على العلوم الاجتماعية، وهو ابن المدارس الدينية(الحوزة). وبعد اطلاع الرفاعي على كتاب الوري بسنة سيصطدم بكتاب آخر هو (معالم في الطريق) لسيد قطب، فأخذه، وهو التلميذ، إلى وجهة أخرى ستطبع حياة الرفاعي كلها، وستترك آثارا ونذوبا عليها، لذلك يقول الرفاعي عن كتاب معالم في الطريق: (أدركت متأخرا أن “معالم في الطريق” كان نفقا مظلما ومتاهة خطيرة. ضعت في تلك المتاهة مدة، وضاعت قبلي وبعدي أجيال في متاهات مخيفة، لم يستطع بعضهم الخروج منها كل حياته “. لذلك كان الرفاعي قاسيا على كتابات سيد قطب، فهي بنظره، مسرفة بالأدلجة، وتغوي بشعاراتها. فنصوص (معالم في الطريق) بارعة في رسم صورة جذابة، للرغبات والمتمنيات والأوهام، تصورها كأنها واقع مجسد في متخيل المراهقين، وتخدعهم بضرورة العمل على استئناف مجتمع الصحابة، ولو بالعنف. (ص115). وانتقد الرفاعي المفهوم التفسيري الذي اشتقه سيد قطب من صلب محنته ومواجهته لديكتاتورية عبد الناصر، وهو(الجيل القرآني الفريد). فهذا المفهوم، بنظر الرفاعي، ليس إلا محصلة متخيل ديني تضخم خارج الزمان والمكان والواقع الذي عاش فيه الصحابة، بوصفهم بشرا اختصموا وتقاتلوا في مرحلة لاحقة. وتشبت قسم من المتدينين بمفهومه سيد قطب هو تشبث بصورة وهمية نحتتها متمنيات فرضها حلم الإنسان الأبدي بصناعة فردوس أرضي. لذلك انغرس المفهوم في ضمير الشباب المتدين، من خلال مقولات اعتقادية مغلقة، أصبح اعتناقها عنده وعندهم شرط الإسلام الصحيح الذي يحلمون به. هذا نوع من النقد الذي يتخلل السيرة الفكرية للرفاعي، في نقد كتاب وقع الرفاعي نفسه في فتنته وغوايته. وفي سيرة الرفاعي أمثلة كثيرة لوقوعه في أسر الكتب، ولكنه أسر إيجابي، لأن وجود الكتاب في حياة الرفاعي، كما يحكي، مازال يشعره بالأمن النفسي، ويؤنسه حين يشعر بوحشة الوجود. (ص22).
ويحكي الرفاعي علاقته الأولى بالكتاب عندما يشتريه أو يهدى إليه، فيقرأ مقدمته ومحتوياته، ويتعرف عليه بالتدريج كما يتعرف على أصدقائه، فإن لم تكن فيه فائدة، يشعر بعبئه في مكتبته كما لو أنه يحمله على أكتافه، ثم يطرده من المكتبه في أول فرصة مواتية. وكم ورط الشغف بالكتب الرفاعي في مواقف محرجة ذكر بعضها في سيرته الفكرية. وحذر من (القراءة العشوائية) لأنها تنتج قارئا عشوائيا، يمضي كل وقته في التهام الكتب بشغف، ويسهر الليالي من أجل ذلك، لكنه يفتقد إلى ناظم فكري أو نموذج معرفي، ولذلك يتحول ذهنه إلى مخزن واسع مكتظ بمعلومات مكدسة، كأنها مطمورات تحت ركام معتم، لاتنتظم بسياق منطقي، ولاينبثق منها ضوء يبدد عتمتها. بل يتحول القارئ الفوضوي إلى وحش كاسر، فكلما ازداد قراءة ازدادا انغلاقا وتشددا ومعاندة واحتقارا للآخرين. يتمركز حول ماكدسه في ذهنه من معلومات لارابط بينها، بل يطور كفاءة إماتة بذرة أي سؤال، ويسكت أي صوت غير مألوف في قراءاته، ويغلق النوافذ أمام كل مايمكن أن يزلزل شيئا من أحكامه النهائية وقناعاته الصارمة. وعندها لاتغير القراءة الواسعة طرق تفكيره، ولا تنقله من طور أدنى إلى طور أعلى في النضج والإبداع، بل تتحول إلى شاهد على البنية اللاواعية لتفكيره، وآفاق انتظاراته ومتمنياته وأحلامه ورغباته، فتنشأ من قراءاته الواسعة هوية مغلقة ومتجذرة في أعماقه، تحصن ذهنه بأسوار منيعة، وبقوة رهيبة قادرة على إجهاض أية محاولة لايقاظه، أو التصدي لغريب يمكن أن يخترقه، وهو في كل الأحوال يشعر بالأمان في التشبث بكل يقينياته. (ص30-31).
وانتقد الرفاعي ظاهرة الكتبة المتكلمون، أو المثقفون الشفويون، فهم، بنظره، يتحدثون كثيرا بثقة عن كل شيء يعرفونه ولايعرفونه، وحين تتراكم تحت أيديهم أموال لم يبذلوا جهدا في اكتسابها، يجندون طلاب العلم المحتاجين إلى قوت يومهم، لينتجوا لهم كتبا من ركام كلامهم الشفوي، فيباغتون القراء بعد سنوات قليلة بعشرات الكتب والمجلدات بأسمائهم، وهم الذين لم يعرفوا كتابا ولاباحثين، ولكن عرفوا وعاظا ومتكلمين. (ص32). كما حذر الرفاعي من كتب النصب الفكري التي تسمى:( التنمية البشرية)، و(تطوير الذات)، و(علم الطاقة النفسية). فأغلب مضامينها أوهام وأساطير ومفاهيم غير علمية، وعبارات مستعجلة، وشعارات مبسطة، وتلاعب بمشاعر الناس، وخاصة المحبطين ، والكسالى، والحيارى …
وقدم الرفاعي وصفا نفيسا لمكتباتنا بما يحيي وعينا بها، وبما يجعلها جزءا من نسيجنا العاطفي والعائلي، وليست عبئا على فضاء البيت. فمكتباتنا أرشيف ذكرياتنا، فكل كتاب يحمل معه قصة، ويؤرخ لمناسبة. ومكتبتنا إحدى مكونات هويتنا الشخصية، وهي أرشيف ذاكرة وذكريات من أنشأها، لايشعر بقوة حضورها إلا صاحبها. فمن خلال تشبع الكاتب بمناخات مكتبته، ومكوثه الكثير بين كتبه، تحدث صلة عاطفية حية بينه وبينها، وعند موته تكتئب مكتبته ولاتطيق الحياة بدونه، وتلتحق به لفرط صدمتها بفراقه، وقد يكون موتها انتحارا، أو اعتداء من الورثة الذين يتخلصون منها في أول مناسبة، ويبيعونها بثمن بخس دراهم معدودات، لينطفئ شيء كثير من نور البيت، ولكن أكثر الورثة لايعقلون ولايعلمون. لذلك نصح الرفاعي الكتاب بتدبير أمور مكتباتهم قبل موتهم، بتوقيفها أو إهدائها، للجامعات والمؤسسات التعليمية ودور الشباب والخزانات البلدية، قبل أن تسقط في يد ورثة جشعين لاصلة لهم بالعلم والمعرفة ولاجليس لهم إلا الدينار والدرهم. وللرفاعي قصص طريفة مع مكتبته، فقد باع ستة آلاف كتاب منها للحاجة لتغطية مصاريف إصدار مجلة (قضايا إسلامية معاصرة، سنة1997)، وقد حكى لحظة خروج الكتب من بيته، وكيف ودعتها زوجته أم محمد، وهي تجهش بالبكاء، بل اكتأبت بسبب ذلك، وقد قالت عن تلك اللحظة: شعرت كأن روحي انتزعت مني، وهرولت بعيدا عسى أن أدرك المكتبة. كنت أقتر على نفسي بكل شيء غير أساسي، لفرط شغفي حد الهوس بالكتب، كنت أغفل فأقدم شراء الكتاب على تسوق الفاكهة لأولادي. (ص54).
وبرغم هذا الحدث المؤلم، أي الاضطرار إلى بيع المكتبة، وإلى أمثاله، فقد استمر الرفاعي وأهله في شراء الكتب، لتتكون مكتبة أخرى أضخم، فقد باع ستة آلاف، وضاعت منه 800كتاب عند إقامته في الكويت، لكن مكتبته وصلت اليوم إلى أكثر من 30000 كتاب. وكان الرفاعي واعيا بأزمة الكتاب اليوم في زمن الصورة ومواقع التواصل الاجتماعي، إذ لم تعد الحاجة للكتاب اليوم، كما نتصور، كما كانت من قبل. ولكن ظل الكتاب صديقه الأبدي الذي مكث معه بعد مغادرة أحبته وأصدقاءه إلى الدار الآخرة، أو هاجروا إلى بلاد بعيدة.
والكتابة عند الرفاعي مران متواصل، ابتدأ بالشعر ثم لما لم يتطاوعا افترقا بعنف بعد أن مزق مانظمه من قصائد. وبقيت، برغم ذلك، روح الشعر ورهافة أحاسيس الشاعر، تظلل كتابات الرفاعي الفكرية والفلسفية، مما لاتخطئه عين المتتبع الحصيف لمتن الرفاعي وللغته. ويحكي الرفاعي أنه تعلم من الكتابة ماتعلمه من القراءة وأكثر. ويحكي عن فعل الكتابة أنه يتهيبه، ويتهرب منه، ويتذرع بمبررات شتى، ويحصل له وجع عند الرغبة في الكتابة. وكان ارنست همنغواي صريحا وقاسيا عندما سأله سائل كيف يتدرب من يريد أن يصبح كاتبا، فقال له: عليه أن يذهب ويشنق نفسه، ثم ينزل عن المشقة، ويفرض هو على نفسه أن يكتب على أفضل مايستطيع للبقية من عمره. عندها ستكون لديه قصة شنقه كبداية. (ص67).
وكتابة الرفاعي منهكة، كما يحكي، تعذبه وتنهكه وقد تنقله إلى منطقة الخطر. تشكلت لغته بمشقة بعد تمارين متواصلة ومملة. ثم امتزجت بنمط تفكيره. وهي خلاصات مطالعاته من مراحله المبكرة الأولى ومازالت مستمرة. هي علامات على عواصفه الذهنية وتأملاته العقلية وماترسب في أعماقه من جراح محطات الحياة المتنوعة. لذلك فالكتابة عنده داء ودواء، يقلق قبل الكتابة، ويهدأ حين يفرغ منها، ويسكن عند النشر. النشر هو الذي ينقذه مما كتب، وإلا فهو ينشغل به ولايغادره، ويعود إليه بضغط نفسي مالم ينشر، لانه يظل يحلم بكمال يعانده الاكتمال. كما ترهقه اللغة أكثر من الفكرة، لذلك يعيد التحرير أكثر من مرة. وهو ميال إلى الايجاز في التعبير، ويعتبر الكتابة فن الحذف والاختزال. ثم إن الكتابة عند الرفاعي ليست عملا بحثيا، وليست منهجا أكاديميا معقدا ومثقلا بالقيود، قيود الإحالة والتوثيق، وهي في المحصلة ليست عملا فرديا، إنها ممارسة تختزل، بنظر الرفاعي، سلسلة طويلة من قراءة كتب متنوعة، وكل ماتشبع به وتمثله وعي الكاتب، وترسب في لاوعيه. فالكاتب لايتكون إلا بعد أن يقرأ كل شيء وينسى معظم ماقرأ. فالكتابة، عند الرفاعي، منجز مشترك، تنصهر فيه عناصر مختلفة لأعمال طالعها الكاتب فتولدت منها مادة مركبة تتكلم بلغته، وتعبر عن تمثله لها وتفاعلاته معها، ويتعرف عليها القارئ من صورته الصوتية(ص72). والنص الذي يكتبه الكاتب هو طبقات من النصوص يرقد بعضها في أحشاء بعض. وفي كل نص تتكلم نصوص متنوعة تحيل إلى معجم الكاتب اللغوي وإلى مرجعياته وإلى رؤيته للعالم، وتتكشف فيه ثقافته وما أنتجته قراءاته وتفكيره وتأملاته. ففي كل نص نستمع لألحان عدة وكأنها نغم واحد، أو ماسماه إدوارد سعيد بالقراءة الطباقية للنصوص. ويخلص الرفاعي لمعالجة التنوع والكثرة في الكتابة بالقول إن كل كاتب يكتب، في الحقيقة، كتابا أساسيا، واحدا، ماقبله تمارين ومابعده تنويعات. والكتابة، من منظور سيكولوجي عند الرفاعي، تمارين على وعي الحياة، عبر اكتشاف أسرار الذات، وما يخفيه الإنسان، والهروب من الهوس وصخب الحياة، والغطس في بحر السلام الداخلي للإنسان. لذلك يعتبر الرفاعي الكتابة علمته أكثر من القراءة، ولكنه يحب القراءة أكثر منها، لأن ألم الكتابة أشد على النفس وعلى دواخلها، برغم أنها تجربة وجودية تتحق أطوارها بأفقها وتجيب عن أسئلتها. ومادامت الكتابة ممارسة حالة وجودية فإن الرفاعي لايتقيد بأية خطة في الكتابة، ولايقيد طلابه في الماجستير والدكتوراه.
ويتحدث الرفاعي عن الكاتب الصادق، وهو الذي ترتسم سيرته الفكرية والأخلاقية في كتاباته، تختزل إيقاع صوته. ولاتتحقق الكتابة الصادقة إلا بيقظة الضمير الأخلاقي للكاتب، فالكتابة في إحدى مقاصدها هي امتحان للضمير الأخلاقي، وهي مسؤولية أخلاقية تجاه القراء. ولامكان في هذا السياق الأخلاقي للكاتب المرتزق، والكاتب تحت الطلب، وكاتب السوق، يكتب لمن يدفع أكثر. والكتابة تجربة فريدة، نمارس بها اختلافنا، ولاوجود لكتابة مستنسخة، فكل كاتب عليه أن يشتق لغته وأسلوبه من تجربته الخاصة، وتجربة الكتابة لاتورث ولاتوهب ولاتقلد. فالكتابة مطالعة مكثفة وتجربة خاصة مكثفة أيضا ومؤلمة كثيرا. والكتابة بلا قراءة عملية عبثية واجتراح لمستحيل.
وحذر الرفاعي من الكتابة عندما تتحول إلى سلطة وتمنح الشرعية لمن لايستحقها، سواء باسم السماء أو باسم الأرض. وحذر من التهام الكتابات الأيديولوجية لأنها تقود إلى الاغتراب، وتحكم قبضتها على قراء دراويش في زنازن من الغضب والسخط والاكتئاب الوجودي. إن الكتابة الأيديولوجية تتقن ايقاد مشاعر المعذبين المستضعفين، لكنها تعذبهم في وجودهم وفي حياتهم، وتحرق دواخلهم.
يقدم كتابة الرفاعي(مسرات القراءة ومخاض الكتابة) فرصة لكل كاتب أو عازم على الكتابة أو متردد متخوف منها، لاقتحام عالمها من خلال هذا الحكي والسرد والتذاكر والسجال، من خلال تجربة غنية ومؤلمة لكاتب لم يعرف إلا بالقراءة والكتابة، ومنذ صغره وهو يحترق بها وتحرقه، ولكنه يظل ممعنا وعنيدا بالغطس في نارها، بحثا عن قبس من روحه وموجوده، وبحثا عن أجوبة عن أسئتله المحرقة التي لاتنتهي.