سوق بلا ليبرالية(يحيى اليحياوي)
لا مقام لسوق إذا لم يسنده اقتصاد في السوق، يحدد بداخله موازين العرض والطلب، يرسم لفاعليه قواعد التنافس وآليات توزيع الثروة والأرباح، ويعين لهم مستويات التحكيم إن تنازعوا أو تخاصموا أو وضعوا الحواجز لبعضهم البعض.
السوق، دون اقتصاد في السوق، هو حالة بدائية، تتبارى السلع والخدمات من بين ظهرانيه دون وساطات فعلية، تقنن العلاقات وتحدد المعايير وتزجر التجاوزات لقواعد في اللعب محددة ومرسومة ومرضية للجميع.
اقتصاد السوق هو الذي يرفع عن السوق بدائيته وتلقائيته، ويدمجه في منظومة الإنتاج والتوزيع والاستهلاك، دع عنك أنماط التراكم وطبيعة العلاقات الإنتاجية التي تترتب عنه أو تشتغل في إطاره.
الأصل في السوق، ثم في اقتصاد السوق، هو الحرية، أي غياب الإكراه، بسلوك ما من داخل مجال التباري والتنافس، أو من خارجه عبر قوانين تحد من ذات الحرية، أو تعيقها، أو تفسد بعضا من قواعد اللعبة من بين ظهرانيها.
ثم إن الأصل في السوق هو التنظيم، حتى إذا كان لمستويات التقنين أن تتدخل، فلضمان التنظيم فقط، وليس من أجل المس بقواعد في العمل محددة سلفا، ومتوافق ضمنيا بشأنها بين الفاعلين المباشرين.
ولما كانت حرية الفعل هي الأصل، فإن الليبيرالية إنما أتت لتمنحها اللبوس النظري، وإلى حد ما اللمسة الإيديولوجية، التي لا بد منها لإضفاء الشرعية والمشروعية عليها.
الليبيرالية تتماهى لزاما مع اقتصاد السوق، وإذا كان لها أن تتساوق مع السوق في صيغته البدائية، فعرضيا ومن باب سنن التدافع الغريزية الخالصة، المرتكزة على نزعة البقاء والاستمرار.
تنطلق الليبيرالية، في خلفياتها وطبيعتها ومنطوقها، من “مسلمة” أن الحرية الاقتصادية (أي حرية التملك والعمل والكسب) هي من صميم فعل الفرد، وأن احتكام هذا الأخير لمصلحته الخاصة، كفيل تلقائيا بتحقيق المصلحة لباقي أفراد المجتمع. اللازمة هنا هي اعتبار المصلحة الخاصة مدخلا جوهريا، لا بل المدخل الواحد والوحيد لبلوغ وضمان المصلحة العامة، بما هي مصلحة المجتمع برمته.
النظام “الطبيعي” داخل المجتمع هو بدوره وبالقطع، نظام اقتصادي يقوم على تبادل المنافع بين أفراد قد لا تكون لهم بالضرورة، روابط اجتماعية أو ثقافية أو أخلاقية أو ما سواها.
أما النظام الاجتماعي المترتب عن كل ذلك، فلا ينبني هو الآخر، على “إرادة مسبقة لأفراد عقلانيين” منتظمين داخل مجتمع، وإنما على مجرد سعي كل فرد “مستقل” لإدراك مصلحته الشخصية، بشكل أناني لا يخضع بالمرة للتقييم أو لأحكام القيمة في التقدير.
تذهب الليبيرالية حد القول بأن هذه المصالح الفردية “كفيلة بالتفاعل فيما بينها، والانصهار في مصلحة جماعية، دون أن يكون ذلك عن سابق إصرار وتدبير، أو بإرادة واعية من طرف أفراد المجتمع”.
لا حاجة هنا للدولة ك”يد مرئية”، ما دامت “اليد الخفية” الناظمة لاقتصاد السوق قادرة على قيادة الأفراد في سعيهم خلف مصالحهم الخاصة، التي ستقود بالقطع لتحقيق المصلحة العامة للمجتمع.
ثم لا حاجة للدولة أو لمستوياتها الوسيطة، اللهم إلا فيما يخص سن القوانين والتشريعات الكفيلة، والكفيلة فقط بضمان حقوق الأفراد الاقتصادية، والحؤول دون أي انتهاك محتمل قد يطالها أو يعتورها.
لا سبيل إذن، وفق هذه الرؤية، لبلوغ التنمية الاقتصادية والاجتماعية إلا هذا المسلك، لأن ما سواه سيؤدي “حتما” إلى هدر الإمكانات وردع القدرات، وتوظيف وسائل الإنتاج فيما لا ينفع التراكم أو يسهم في زيادة منسوب الثروة.
لو سلمنا بهذا الطرح، فإننا سنسلم حتما بضرورة توافر شروط قبلية أدنى، إذا لم تكن لإسناده كي يستقيم، فعلى الأقل لضمان نسقيته في الزمن والمكان.
ولعل أولى وأهم هذه الشروط تكمن في تحديد قواعد اللعبة بين الفاعلين، وتعيين مستويات تحكيم محايدة تعيد الأمور إلى نصابها، إن حدث تجاوز، أو طرأ ما من شأنه أن يعمل على تلغيم القواعد إياها أو الطعن فيها.
ليست الغاية هنا مناقشة الطرح أعلاه. حسبنا فقط أن نرى في مدى قدرته على استقراء بعض مظاهر ما يجري بالمغرب قياسا إلى الخطاب وواقع الحال.
ويبدو أن المغرب لم ينجح في إقامة ركائز لاقتصاد السوق، يكون من شأنها تصريف مفاصل المنظومة الليبيرالية ومن ثمة تجذير قيمها في الاقتصاد وفي المجتمع:
°- السوق بالمغرب حالة طبيعية، إذا لم يكن بالحواضر المتمدنة، فعلى الأقل في البوادي القديمة، حيث وسيط التبادل كان دائما ولا يزال هو السوق. صحيح أن التعامل النقدي هو حالة مستجدة، لكنه لا ينفي وجود إرهاصات قوية لمعادلة العرض والطلب، حتى وإن خضعت لآليات في التبادل ترتكز على المقايضة، أو على اعتماد سلع معتبرة يتوافق الفاعلون على اتخاذها كمعيار لقياس القيمة.
بيد أن العملية اقتصرت على هذا البعد “البدائي”، ولم تتطور إلى أشكال ووسائط جديدة إلا بحلول الحماية، ثم حاجة المستعمر إلى سن قوانين في الإنتاج والتوزيع وتصريف فوائض القيمة.
ولذلك، فنحن لا نزال نجر هذا المنطق، منطق السوق البدائي، من خلفنا، ولم ننتقل بعد إلى اقتصاد في السوق له قواعده وآلياته ومستويات حكامته.
°- ثم إن “الطبقة الاقتصادية” التي تشكلت في أعقاب الاستقلال وتحت جناحيه، لم يتم استنباتها من داخل سوق جازفت وراكمت رأس المال من بين أطرافه، واحتكمت لآلياته في إفراز فائض القيمة. أبدا. لقد تشكلت “من عل”، أي من ضيعات صودرت بعد استرجاعها، ومن مصانع تم وضع اليد عليها جورا، ومن قطاعات تم تفويتها لمقربين من السلطة، ومن مرافق كبرى تم إخضاعها قسرا للاحتكار الخاص.
هي إذن “طبقة” دخيلة على السوق، وليست نتاجه بالمرة. ولما كانت كذلك، فهي لم تستطع إفراز التراكم الاقتصادي المنشود بحكم أن فاقد الشيء لا يعطيه.
من الطبيعي والحالة هذه، أن يداس منطق العرض والطلب، وأن تتوارى قيم المنافسة للخلف، وأن تبرز سلوكيات تخدم مصالحها الخاصة التي تضر بالمصلحة العامة، فما بالك أن تحيل عليها أو تصب فيها أو تخدمها.
ليس من المبالغة القول بأن هذه “الطبقة” هي التي أفسدت وتفسد آليات السوق، ليس فقط عن قصد من لدنها متعمد، بل لأنها تجهل أصلا معايير السوق ولا مصلحة لمن يدركها في أعمالها.
بالتالي، فنحن بإزاء “طبقة” يرفع دعاتها لواء الليبيرالية، لكنهم غير مؤمنين بها، ولا متشبعين بقيمها. وعليه، فخدمة المصلحة الخاصة لديهم لا تتماهى بالمطلق مع اعتبارات المصلحة العامة، لا بل يبدو الأمر كما لو أن ثمة تنافيا موضوعيا بين المستويين.
°- أما يد الدولة، فهي مرئية جهارا نهارا، لأنها لا تتماهى هي الأخرى مع اليد الخفية التي يستوجبها اقتصاد السوق ويشترطها منطق الليبيرالية الصريح.
الدولة بالمغرب لا تسن القوانين والتشريعات لزجر “الأيادي الخفية”، بل تغدق عليها الدعم، تغض الطرف عمن يتهرب منها، وتتهاون ثم تتواطأ مع من يتجاوز ويبالغ في التجاوز ضمنها. إنها دولة وظيفية بكل المقاييس.
لن تعوزنا الحالات والأدلة، وإلا فلنتأمل مليا في ملف المحروقات مثلا، لنرى كيف أن قواعد السوق تنتهك بواضحة النهار ومبادئ المنافسة تهدر بالمباشر الحي…ولنتأمل أيضا في سعار الأسعار، وكيف لا يتوانى دعاة الليبيرالية في الاستهتار بقواعدها الأساس…
أين اقتصاد السوق؟ أين مبادئ الليبيرالية؟ أين حرية المنافسة والبقاء للأنجع؟
لا أثر بالمرة لها. نحن، على النقيض من ذلك تماما، بإزاء طبقة طفيلية، ريعية، صادرت السوق بالجملة والتفصيل، وهي في طريقها لترهن المجتمع…لتتخذه رهينة عندها أقصد…