سيرورة الارتكاس وسيرورة النموذج الاجتماعي الجديد:(عبد السلام ديرار)
القديم لم يستسلم منذ البدء:
بالرغم من أن عملنا يراهن على البناء العلمي لاشتغال الاجتماعي في الاقتصادي والسياسي الراهنين في الغرب، كما حددنا ذلك في مدخله، فإن العودة إلى بعض المحطات الكبرى و الأحداث البارزة ضمن المخاضات العسيرة لولادة “النموذج الاجتماعي الجديد”، تبقى ذات أهمية قصوى في تسليط الضوء على مآلات الراهن، ففي التاريخ تتكشف طبيعة السيرورات و النهايات و المآلات، ناهيك عن كون “قديم – جديد”، مثلها في ذلك مثل”عقل – لا عقل”، “معرفة – جهل”،”ذكاء – غباء”، “ميت – حي”،”صمت – ثرثرة”، “وطن – منفى”…، كلها مجرد ثنائيات ميتافيزيقية، لا بمعنى كون القديم (فيما يخصنا هنا) يُداخل الجديد فقط، ويظل حاضرا بشكل أو بآخر، بل يتحيّن الفرصة للعودة من جديد. و كم من سياق في التاريخ عاد فيه “اللاعقل” بصورة رهيبة بعد زمن لشموخ العقل (أوربا القرون الوسطى المظلمة بعد نور الحقبة اليونانية، و الفضاء الإسلامي اليوم الفادح الحلكة بعد الإضافات النوعية خلال القرون الوسطى المظلمة عند الآخرين…). وكم من أموات منذ قرون هم “أحياء” بيننا، و كم من أوطان تحولت إلى منافي سحيقة…الخ، و كم من قديم عاد (في غفلة من المعنيين في الغالب) ليسحب البساط من تحت أقدام الجديد، و يفرض نماذجه للإدراك و مبادئه و معاييره للرؤية والتقسيم، أو أشكاله الرمزية بلغة إرنست كاسّررE. Cassirer، أو أشكال التصنيف بلغة دوركايم.و القارئ اليوم، لكتب مثل “تاريخ و معجم الثورة الفرنسية” ، أو “الكتاب الأسود للثورة الفرنسية” ، و غيرهما كثير، يصاب بالدهشة أمام حجم الثورة المضادة للثورة الفرنسية، و اتخاذها أشكالا متعددة، من محاولة استبدال ملك بملك، و طبع كتيبات و مطبوعات و نشرها، تراهن على نشر الخوف من التغيير، و حشد مجموعات”مثقفين” مناهضين للثورة…، إلى غير هذه و تلك من الوسائل و السبل التي اعتمدها “النظام القديم” لمحاولة البقاء و تأبيد نفسه.
و مما له الكثير من المعنى بالنسبة لعملنا، كون ردّ فعل النظام القديم الرافض للتغيير، المقاتل من أجل منعه و منع انبثاق “نموذج جديد”، لم يقتصر على فرنسا، بل امتد – وبشكل فيه الكثير من التصميم على منع “الولادة” – إلى كل أرجاء القارة الأوربية، بما فيها روسيا (القيصرية آنذاك)، فتحت وطأة رعب اللحظة التاريخية (و مثلها معدود في تاريخ المجتمعات البشرية)، تجمعت جميع قوى أوربا القديمة: البابا و القيصر (روسيا) و ميترنيخ (Klemens Wenzel Von Metternich) (رجل دولة نمساوي، ثم أمير، كان الرأس المدبّر للثورة المضادة في النصف الأول من القرن 19)، وجيزو(François Guizot) (المؤرخ و رجل السياسة الفرنسي و عضو الأكاديمية الفرنسية و وزير لعدة مرات ضمن ملكية يوليوز (1815)، المشهور بنشر إيديولوجيا الردّة)، من أجل المواجهة المباشرة ل”الزلزال” الجارية أطواره بفرنسا، و ارتداداته المنتظرة، بل التي بدأت تنفجر بكل أوربا، صارخة بنهاية نظام اجتماعي (عمّر طويلا) و قيام نظام جديد.
كان ميترنيخ قائدا للحلف الرباعي الذي كان تصحيحا للحلف المقدس الذي شكلته كل من روسيا و بروسيا و النمسا في عام 1815، الموجّه أساسا ضد فرنسا و الحركات الثورية في القارة الأوربية. و الحلف الرباعي كان يهدف إلى الحفاظ على النظام الاجتماعي لردّة 1815 الملكية في فرنسا، و إلى الحفاظ على أنظمة الحكم المطلق في القارة. و عمليا، استخدم ميترنيخ الحلف للتصدي لمبادئ الثورة الفرنسية…، و قد نصّ الحلف على إجراء مشاورات دورية بين الملوك المهددين بالاحتمالات الثورية، كلما بات التوازن الأوربي الناتج عن انتصار الحلفاء الأربعة:روسيا، بروسيا، النمسا، و بريطانيا، على فرنسا، عام 1815، مهددا بالخطر، نتيجة لمطامح فرنسا، أو إذا انفجرت ثورة.
ولم يقف إصرار النموذج الاجتماعي القديم على الوقوف في وجه التغيير، على ذلك، بل تعداه إلى الأبعد و الأقصى في القتال من أجل تأبيد سيادته، إذ اعترف الحلفاء الأربعة بحق التدخل المسلح لإخماد الثورات البورجوازية الليبرالية. و هكذا نجح ميترنيخ في إخماد الحركات الليبرالية في ألمانيا و إيطاليا، حيث تدخل البوليس و الجيش النمساويان
في 1821 لسحق ثورة جمعية الغابات السرية التي قادت انتفاضة نابُولي الليبرالية سنة 1820.
و أما فرانسوا جيزو (1787- 1874)، فقد مثل نموذجا لقتال النظام القديم من أجل البقاء، على المستوى الرمزي، إذ كان – كما أشرنا إلى ذلك – رأس جمعية المذهبين التي قامت في عهد الردّة الملكية(1815- 1830)، بعد سقوط نابوليون و احتلال فرنسا، لتنشر إيديولوجيا الردّة الملكية القائلة: الملك يملك و يحكم “لأن العرش ليس كرسيا فارغا”، للتصدي للإيديولوجيا الدستورية القائلة بأن الملك يملك و لا يحكم .
و دون الدخول في تفاصيل الأحداث، الذي لا يخدم عملنا، ما دام الأساسي هنا هو الفكرة، و الفكرة هي إصرار “نموذج اجتماعي” قديم على عدم الاستسلام، و خوضه الحروب بكل الأشكال، للبقاء، نقول مع Etienne Paisnel، أنه إذا كان قد تمّ اعتبار كون “النّبالة”، كفّت عن الوجود بعد ليلة الرابع من غشت، و عمليا، كان يلزم انتظار 19 يونيو 1790 لتكون قد هدّمت، فقد تمت إعادة تكوينها على يد نابوليون خلال مرحلتين: بمجلس الشيوخ (Senatus Consulte) لـ الـ 14 غشت 1806، ثم مراسيم النظام الإمبراطوري les statuts)) المقدمة في 11 مارس 1808، و ميثاق 6 أبريل الذي
أعاد إحياء النبالة و أضاف إليها أخرى إمبراطورية . و في يوليوز 1814، أي ثلاثة أشهر بعد تنازل نابوليون الأول، كانت الملكية قد رُمّمت من جديد، بالرغم من حرصها على عدم صدم الأرواح بإرادة واضحة معلنة للعودة إلى الوراء… و بين 1800و1850، كان38.15% من المنتخبين و العمّال(préfets) من أصول نبيلة.
و ما حدث بفرنسا هو نفسه الذي وقع بسويسرا و الأراضي المنخفضة و بلجيكا وبريطانيا…، بصيغ قد تختلف إلا أن الجوهر الذي يهمّنا ضمن هذا العمل، يبقى واحدا، و الذي يتمثل في خروج النظام القديم من “القتال” “حيّا”! و عودته إلى مسرح الأحداث من جديد، و بالتالي عودة البنيات الاجتماعية لذلك النظام القديم بهذا الشكل أو ذاك. فبالنسبة لبريطانيا مثلا، فإن البورجوازية البريطانية تتظاهر بكونها لم تكن أبدا ثورية، باحتفاظها بملكية بدون فائدة غير التزيينية و الإسرافية. فهي حركت الثورة البورجوازية قبل الفرنسية بمئة عام تقريبا، و قطعت رأس الملك قبل أن يحدث ذلك على باقي القارة الأوربية… و بريطانيا التي نجحت الأولى، في ثورتها، أرادت إنكارها و إخفاءها تحت تحالف البورجوازية مع النبلاء، و عبر إعادة تأهيل الملكية ، بل إنها تدعي كونها استنكرت “الإفراط الثوري الفرنسي ل 1789″، كما و أن بريطانيا لم تكن ثورية قبل فرنسا . و لكن فولتير في “رسائل فلسفية”، يقول: “انظروا! أي ثورات تصل إلى الرأي العام كما في الإمبراطوريات (…). ما يتحول إلى ثورة ببريطانيا هو مجرد تحريض باقي البلدان… و الفرنسيون يعتقدون أو حكومة هذه الجزيرة(بريطانيا) هي أكثر عاصفية من البحر الذي يحيط بها، و هذا صحيح (…). و ما يؤاخذ عليه الانجليز بفرنسا أكثر هو عذاب شارل الأول…” ” و كان ذلك ثمنا – بدون شك – لإقامة الحرية ببريطانيا، ففي بحار من الدم، تمّ إغراق صنم السلطة الاستبدادية، و لكن الانجليز لا يعتقدون أنهم اشتروا بثمن مرتفع قوانين جيدة” ، علما (دائما) بأن تلك القوانين لم تكن أبدا قوانين “نظام اجتماعي” جديد، كانت تبشر به الثورة (البورجوازية)، بل قوانين تحالف بين البورجوازية (الجديدة) و (النبلاء) (القدماء)، أي أن القديم لم “ينسحب”!.
و قبل إغلاق هذه الفقرة حول “القديم الذي لم يستسلم منذ البدء”، نضيف أن محاولات الخلاص من النظام القديم بفرنسا مثلا تكررت عبر محطات بارزة على امتداد ما يناهز الخمسة قرون، و أن “علينا ألا ننسى أنه في عام 1306 و 1358 و 1382 و 1410 و 1588 و 1648 و 1789 و 1793 و 1830 و 1848 و 1871، كان الشعب الصغير لمدينة باريس يبدو كعَلَم للثورة في أعين العالم”، وأن النظام القديم في المرات السابقة ل 1789، كان يعود بكل عافيته.
والآن نتساءل: ما الذي آل إليه وضع النظام الاجتماعي بالغرب، بعد كل هذه المخاضات؟ هل كانت الثورة البورجوازية الأشهر على الإطلاق، أي الفرنسية، منذ قرنين و ثلاثة عقود، بالفعل، نهاية نظام اجتماعي، إلى الأبد، هو النظام الفيودالي، و قيام نظام آخر هو النظام البورجوازي؟ و ماذا عن الاختلالات الاقتصادية و “الانحرافات” السياسية التي يشهدها النموذج الاجتماعي الجديد، بعد كل هذه المدة من إعلان انتصاره؟ هل هي مجرد “تعثرات” و “انحرافات” “طبيعية” في سيرورة طبيعية لتطور “طبيعي” للاقتصادي و السياسي ضمن النموذج الاجتماعي الجديد، أم أن الأمر أكبر من ذلك بكثير، أي أنه يخص “الاجتماعي” نفسه، و أن ما يعتري الاقتصادي و السياسي اليوم من انحرافات عن النموذج المعلن و المسوّق على نطاق واسع، إقليميا و عالميا، إن هي إلا أعراض لما يمسّ الاجتماعي في صميمه؟ألا يتعلق الأمر بمحاولة النظام القديم للعودة رغم كل هذه المدة الطويلة من إعلان نهايته، و تسليم المكتوي أجدادهم بناره، بنهايته إلى الأبد، و احتفائهم بذلك و تمجيده بالفن و الأدب، بل و حتى بالفلسفة و العلم !!، و اشتهاء الآخرين خارجه له كما اشتهاء “كامل” “نهائي” “مطلق”!! (و لهم ما يبرر لهم ذلك و هم يستمرون في تجرّع و ويلات القديم الذي لم يمسسه أي تغير قط)؟ ماذا
عن أحداث ووقائع و أفعال و أشخاص و كثير تقاطيع بالغرب، اليوم، تشذّ عن مقتضيات النموذج الاجتماعي الجديد، و ترمز إلى الماضي؟