سيرورة انهيار الدول: جيل خراب العمران وظلم السلطان(خلاف أوجادر)
حدد ابن خلدون عمر الدولة في دورة زمنية مقرونة بأجيال محددة؛ لكل جيل مقوماته وخصائصه، من جيل التأسيس إلى جيل الانهيار والخراب.
ما اريد التركيز عليه في هذا المحور هو الوقوف على الخصائص والسمات النفسية والاجتماعية للجيل الأخير أي الجيل المعاصر للانهيار والخراب وعلاقة السلطان بالدورة الاقتصادية، وتدخله في كل ما يتعلق بالكسب والتجارة والسوق وأرزاق الناس، وكذلك في صناعة وصياغة أنماط من الشخصيات وفئات اجتماعية انسحابية وأخرى تسلطية وانتهازية تساهم في تسريع وثيرة سقوط الدولة.
قد يقول قائل أن بعض الدول أو بعض الأنظمة عمرت وحكمت لعقود من الزمن. هنا مربط الفرس ومرتكز الاجتهاد في النظرية الخلدونية.
كان ابن خلدون يمزج بين دورتين متلازمتين في عمر الدول ألا وهي الدورة الاجتماعية والدورة السياسية. فلما كان تأسيس الدولة يأتي من الهامش ويعتمد على العصبية والقرابة الدموية كان عمر الدولة مرتبطا بأربعة أجيال مضبوطة ومحددة، وكان الزمن السياسي من عمر الدولة متزامنا ومتوازيا مع زمن الدورة الاجتماعية، أي أن الدورة الاجتماعية تصل بدورها إلى الخراب مع الجيل الرابع، وذلك في حدود مائة إلى مائة وعشرين سنة.
اما الآن وفي ما نعيشه من أنماط الدول فالأمر يتطلب المزيد من التشخيص لمقومات النشأة وتمحيص لدعامات الأنظمة الحاكمة، وسنجد ان الدورتين غير متزامنين مثلها في ذلك مثل عدم تساوق أزمنة المُلك العاض والملك الجبري في مختلف الاقطار الإسلامية. وهذا لا يعني عدم صدقية حديث الخلافة الوارد في مسند الإمام احمد.
الأهم في رؤية ابن خلدون هو الخصائص الإجتماعية لجيل الخراب وما يعيشه من أنماط سلوكية أثناء الانهيار وإبان الخراب.
فالأجيال الاولى يطبعها التضامن الجماعي والتماسك الاجتماعي تحت لواء العصبية المستندة على القرابة الدموية والانتماء العشائري.
هذا فيما يخص الأجيال الاولى من عمر الدولة، أما الجيل الأخير فيفقد فيه الناس روح المؤازرة والانتماء العصبي وتتلاشى فيه أواصر القرابة حين يستقرون بالمدن ويقطنون الحواضر.
ويمكن تلخيص الخصائص الاجتماعية والاقتصادية لجيل الانهيار والخراب في بداية التمتع بالحياة المدنية المتسمة بالدعة والوداعة والتراخي والكسل والعجز عن حماية الناس لأنفسهم وصد الهجمات ممن يتسمون بالقوة وفضائل البداوة وصفات المحاربين، يلين فيها الرجال فيصبحون مثل الولدان والنسوان.
ولما يصبح الناس أفرادا متناثرة والرجال أشبه بالنسوان تصاب الدولة بالترف والشراهة، فتكثر الضرائب والمغارم طلبا في زيادة الجباية والمكوس وبزيادتها تضعف عزائم الناس عن العمل لأم مجهود عملهم تأخذه الدولة، وحينئذ تنقص الضرائب بقلة الإنتاج وتدهوره. وأمام الانخفاض المستمر في الانتاج والزيادة في الضرائب يزداد الأمر سوءاً، فينتج عن ذلك تذمر العباد وخراب البلاد.
يرى ابن خلدون كذلك انه بقدر هيمنة الظلم يتقاعس الناس عن العمل، وسلبهم حقوقهم يثبط آمالهم وعزمهم في الكسب وطلب الرزق، وبقدر العدوان على الناس في أموالهم يذهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها، لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها نهبها من أيديهم. وإذا ذهبت وتبخرت آمالهم في الاكتساب والتحصيل انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك، ربما ترهلت عزائمهم وتبلدت فطنتهم وتقهقرت قابلية الإقدام على العمل وروح المثابرة. وعلى قدر الاعتداء على أموال الغير يحصل التقاعس عن العمل. فإذا كان الاعتداء عاما يكون العزوف عن العمل والإنتاج عاما. وبقدر قعود الناس عن الكسب تكسد الاسواق ويهجر الناس الاوطان والبلدان.
وكلما تناقص الظلم والعدوان على الناس وممتلكاتهم ازدهر العمران، وكلما استفحل الظلم انهارت الدولة وعم الخراب. وهذا ما يفسر اعتبار مقصد حِفظ المال رُكناً شديدا في تلاحم وتعاضد وتضامن أفراد المجتمع لبناء العمران البشري والأخوي ومقصدا من مقاصد الشريعة الاسلامية.
هكذا يبدو العمر الزمني للجيل المعاصر للإنهيار ولخراب الدولة غير مقرون بعدد السنوات والعقود، بقدرما هو يصيرممتداً على مستوى الظواهر الاجتماعية وسلوك السلطان الاقتصادي والسياسي والأخلاقي ليشمل كل مظاهر الظلم التي تحدث عنها ابن خلدون.
فالظلم الاقتصادي مثلا ، الذي يترتب عنه بدوره الظلم الاجتماعي، يكون السلطان فيه المسؤول الأول في ظنك عيش الناس، لأن التجارة من السلطان مُضِرة بالرعايا مُفسدة للجباية “، ومنافسة السلطان للرعايا في السوق طلباً للربح، يفسد السوق والتجارة. ويؤدي الى انكفاء التجار وعزوفهم – خوفاً أو إجلالا – من منافسته، خاصة إذا لمسوا وأدركوا أنه يروم تغليب القهر والتعسف عن المنافسة المتكافئة . فالرعايا في نظر ابن خلدون “متكافئين في اليسار او متقاربين، ومزاحمة بعضهم بعضا ينتهي إلى غاية لوجودهم أو تقرب، وإذا رافقهم السلطان في ذلك وماله أعظم كثيرا منهم، فلا يكاد أحد منهم يحصل غرضه في شيء من حاجاته ويدخل على النفوس غم ونكد.
وقد ينزع السلطان الكثير من الربح غصبا لأنه يعلم أن “الجاه مفيد للمال” والجمع بين سلطة الجاه والعمل بالتجارة مفسدة الاثنتين. فلا الجاه يسلم من الطعون واحترام الرعية، ولا التجارة تنمو وتكبر بسبب كساد السوق، ولا لحمة القرابة تلتئم وتشتد.
حين يسود الظلم البين ويستخف الحاكم قومه فيطيعوه، وتكسد الأسواق ولا يجد التاجر ولا الأجير، ولا المقيم ولا العابر، ولا الكفيل ولا المكفول لقمة عيشه في السوق بالحلال، حينها يتيقن الجميع ألا جدوى من عبارة ” دُلّني على السوق” أية قيمة ولا أهمية ، وأن السوق أصبح مرتعاً للسلب لا مكاناً للكسب.
امام تبخيس القاعدة الذهبية في التوجه إلى السوق والتوكل على الله في الكسب الحلال، تخبو عزائم جيل الخراب وتفتر هممه ويضعف ايمانه وتصدأ القلوب ويطلق العنان لإعمال العقل في المكر والخدع، وتكثر الحيل وتبرز نفسيات وعقليات غريبة عن أصالة المجتمع وشهامة الانسان المسلم، وتنشط اللصوصية والانتهازية والمداهنة والشخصيات الهولامية المساندة للظالم باللسان، اللاعنة له سراً بالقلب الضعيف الإيمان.
تظهر فئات اجتماعية في جيل الانهيار والخراب لصيقة بالسلطان تقتات من فتات موائده، وأخرى تقتات على دماء وعرق الأشد منها تعاسة وفقرا، وأخرى وضعها ليس أفضل من وضع القُرَّد الملتصقة بجلود الأنعام وبآذان الدواب . كما أن ثمة فئات وديعة جدا مهمتها تنظيف ما علق في الأنياب المفترسة تارة بالفتاوى على المقاس وتارة بغض النظر عن كل موضوع حساس، مثلها في ذلك مثل طائر الزقزاق يربط علاقة صداقة مع اشد التماسيح افتراساً ليُطببه وينظف عوالق فكيه وأنيابه.
رغم أننا لم نجد في مقدمة ابن خلدون ما أورده بعض الباحثين من كلام في توصيف وتشخيص مجتمع الجيل الاخير من الدولة أي جيل الانهيار والخراب، فلا بأس من ايراد هذه الفئات الاجتماعية التي يجمعها قاسم مشترك واحد ووحيد ألا وهو الوصول إلى جيوب الناس بكل الوسائل ومقارنتها مع تعيشه مجتمعاتنا في الفترة الراهنة، والتوصيف كالاتي:
“عندما تنهار الدول يكثر المنجمون والمتسولون والمنافقون والمدّعون.. والكتبة والقوّالون.. والمغنون النشاز والشعراء النظّامون.. والمتصعلكون وضاربو المندل.. وقارعو الطبول والمتفيقهون.. وقارئو الكفّ والطالع والنازل.. والمتسيّسون والمدّاحون والهجّاؤون وعابرو السبيل والانتهازيون.. تتكشف الأقنعة ويختلط ما لا يختلط.. يضيع التقدير ويسوء التدبير.. وتختلط المعاني والكلام.. ويختلط الصدق بالكذب والجهاد بالقتل.. عندما تنهار الدول يسود الرعب ويلوذ الناس بالطوائف.. وتظهر العجائب وتعم الإشاعة.. ويتحول الصديق الى عدو والعدو الى صديق.. ويعلو صوت الباطل.. ويخفق صوت الحق.. وتظهر على السطح وجوه مريبة.. وتختفي وجوه مؤنسة.. وتشح الأحلام ويموت الأمل.. وتزداد غربة العاقل وتضيع ملامح الوجوه.. ويصبح الانتماء الى القبيلة أشد التصاقا.. والى الأوطان ضربا من ضروب الهذيان.. ويضيع صوت الحكماء في ضجيج الخطباء.. والمزايدات على الانتماء.. ومفهوم القومية والوطنية والعقيدة وأصول الدين.. ويتقاذف أهل البيت الواحد التهم بالعماله والخيانة.. وتسري الشائعات عن هروب كبير.. وتحاك الدسائس والمؤامرات.. وتكثر النصائح من القاصي والداني.. وتطرح المبادرات من القريب والبعيد.. ويتدبر المقتدر أمر رحيله والغني أمر ثروته.. ويصبح الكل في حالة تأهب وانتظار.. ويتحول الوضع الى مشروعات مهاجرين.. ويتحول الوطن الى محطة سفر.. والمراتع التي نعيش فيها الى حقائب.. والبيوت الى ذكريات والذكريات الى حكايات”.
فرغم أنني أستبعد أن يكون لفظ هذا النص لابن خلدون إلا أن مضمونه ينسجم تماما مع تعيشه المجتمعات في فترات الانهيار من تفشي مختلف الظواهرالاجتماعية والنصب والاحتيال والدسائس والمؤامرات.
فأمام اشتداد ظلم السلطان وعسفه على الناس، وعدم استعدادهم لقول كلمة حق أمامه، يضطرب المجتمع، مما يظطر السلطان لطلب المعونة من الغريب الاجنبي للاستقواء به والاستظلال بمظلته في الداخل وفي المحافل الدولية لمواجهة المحتجين والمصلحين وكل ذي رأي معارض ومخالف لرأيه.