سيرورة تطور مذهلة للنموذج الاجتماعي الجديد(عبد السلام ديرار)
لا يملك كل قارئ لتاريخ الغرب خلال النصف الثاني من القرن العشرين، و خصوصا الأوربي منه، غير الاعتراف بكون السلطة السياسية فيه أو القوى الاجتماعية الممسكة بزمام السلطة، أي البورجوازية، تمكنت – تحت ضغط عوامل خارجية متمثلة أساسا في تهديد “النموذج الاجتماعي” السائد آنذاك على مساحة شاسعة من المعمور، المتوغّل بإصرار إلى قلب أوربا، حدّ اقتسامه “السيادة على واحدة من أهم عواصمه (برلين). و أخرى داخلية، متمثلة في الديناميكية و الحيوية لتنظيمات المحكومين (أحزابا و نقابات…) و إصرارها اللامتوقف على إجبار الحاكمين على الرضوخ للقبول بمزيد مكاسب تعمّق الديمقراطية، و توسّع مجال الحرية و تسمو بالمواطن و تحصّن كرامته، عبر تعميق تجسيد “الدولة” و تطبيق القانون…، تمكنت تلك القوى الحاكمة من الذهاب بنموذجها الاجتماعي إلى حدود كان فيها الكثير من الإغراء، إذ بعد ما اشتهر ب”الصفقة العادلة”، غداة الحرب العالمية الثانية، و التي طرحها الرئيس الأمريكي هاري ترومان، و مشروع مارشال لإعادة بناء ما دمرته الحرب بأوربا الغربية، تمّ ضمان استقرار نمو اقتصادي و شروط هيكلة الاجتماعي على “لوغاريتمات” دقيقة الهندسة، تضمن العمل المأجور (المقبولة شروطه!) للعمال الأوربيين، بل و حتى للمهاجرين المستقدمين من المستعمرات القديمة (بشروط أقل سخاء مما هو عليه حال الأوربيين)، إلى جانب خدمات اجتماعية أكثر سخاء و إغراء، عبر تأسيس هياكل نظام تأمين اجتماعي أكثر إغراء (نظام صحي عمومي فعال، تعليم عمومي بجودة مقبولة إجباري، تعويض عن البطالة يضمن العيش الكريم للعاطل…)، و نقابات عمالية عتيدة تملك كل مؤهلات فرض نفسها و إسماع كلمتها، طبعا باعتبارها تنظيمات موازية للدولة و وسيطا (حديثا و حداثيا) بين العمال و المأجورين، و أرباب العمل و هذه الدولة، أي شريكا تفاوضيا للحاكمين، فالدولة (بعد اليوم!) دولة قانون و مؤسسات متينة (لفّ الكثير من الدخّان مضمونها الليبرالي و عمقها الطبقي) ناهيك عن حرية التعبير الواسعة، و المساحة الهائلة لاشتغال حقل الخيرات الرمزية التي أثمرت جيلين على الأقل من الأدباء و المفكرين و العلماء و الفلاسفة، على امتداد الستينات و السبعينات، و حتى الثمانينات من القرن العشرين، بكل الأقطار الأوربية، و خصوصا بفرنسا و بريطانيا و ألمانيا الغربية (آنذاك). و امتدت آثار المناخ المنفتح العام (الذي لا يمكن إنكاره بشرط الانتباه إلى رهانات من سمحوا به و حساباتهم كما سنفصل ذلك لاحقا)، إلى انفجار الحركات النسوية التحررية، طبعا في تطابق و تساوق مع سيرورة تطور البنيات والهياكل الاقتصادية و الاجتماعية للمجتمعات الغربية (تمزيق التضامن العائلي الموروث و ميل الإنتاج إلى التطور خارج البيت…)، و انطلاق ما سمي ب”الثورة الجنسية”، و الحيوية اللافتة للحركات الطلابية بمختلف الجامعات بالغرب، و التي بلغت حيويتها حد أن شارفت أن “تفيض” خلال الأحداث الشهيرة بفرنسا عام 1968.
و مما ضاعف من حركية و حيوية المحكومين (عمال، نساء، طلبة…)، و بالتالي حيوية هذا النموذج الاجتماعي (البورجوازي)، خلال تلك الفترة التاريخية، كون الفئات المتوسطة من المجتمعات الغربية آنذاك، حسمت أمرها بكونها لا تقبل ذاتها إلا منخرطة في تلك الحركية الشاملة، متوقف مصيرها على مآلاتها.
إنها مرحلة “التوازن الأجمل”! و “الأبهى” ضمن “الديمقراطية” و “الليبرالية”، و التي لم تقف محاصيلها داخل كل بلد أوربي على حدة، بل امتدت آثارها إلى الأبعد و الأشمل (و الأبهى!)، فقد سمح مناخ الديمقراطية و حال النموذج الاجتماعي، و هو في حال امتداده / انفتاحه (طبعا تحت تأثير ضغوط داخلية و خارجية دائما) بما سمّاه جيل دولوز (و احد من كبار الفلاسفة الذين انبثقوا خلال تلك المرحلة) “انتشالا إقليميا رائعا” ، و هو المشهور بانتقاده اللاذع للرأسمالية و الديمقراطية أيضا ، و يقصد دولوز طبعا، الاتحاد الأوربي، هذا الفضاء الشاسع المشكّل من ثمانية و عشرين بلدا بأحجام مختلفة و أنماط للتنظيم المؤسساتي متنوعة، بسكان (مواطنين) يتجاوز عددهم 508 مليون نسمة، على مساحة تقدر ب 4.5 مليون كلم2، حيث يمكن للمواطن الاسباني (الأوربي بعد هذا الإنجاز) أن يتحرك بدون حواجز / حدود، من أقصى جنوب أوربا على ضفة البحر الأبيض المتوسط إلى أقصى شمالها بالسويد أو فيلاندا أو الدانمارك على الضفة الشمالية لبحر البلطيق، للسفر أو التجارة أو العمل، أو البحث عنه…، و إذا استقر له الحال بواحد من الأقطار ال28، فإن مواثيق الاتحاد تضمن له الحصول على نفس الأجر الذي يتقاضاه عمال أو موظفو هذا القطر، و الخدمات الاجتماعية الجاري بها العمل، و الحق الكامل في التحاق أسرته به، بل و حق أبنائه في الحصول على المنح الجامعية… إنه “الانتشال الإقليمي الرائع”! بالفعل، و الذي لا يمكن تفسير إنجازه و تحققه إلا ضمن الحركية (الديمقراطية) أو “التوازن الأجمل” أو التجربة التاريخية للشعوب الأوربية ضمن حال لموازين القوى في الصراع الاجتماعي المتجسد في العلاقات الاجتماعية بين المنظومة و الذات الفاعلة (sujet)، حيث إبداع التجارب التاريخية لا يكون ممكنا إلا من خلال العلاقات الاجتماعية، بلغة ألان تورين . و بلغة أكثر تبسيطا، فإن هذا الإنجاز الرائع الذي لم يتوقف عن الاتساع، على امتداد ما يزيد عن نصف قرن، كان نتاجا طبيعيا للإزهار المتواصل للديمقراطية و صمود البورجوازية في “بورجوازيتها”، أي عقلانيتها و انفتاحها، و انتصارها على ما يتهدّدها من نزعات قومية أو انغلاقية أو كل التي من فصيلة الأفق الضيق، مدفوعة في ذلك بحيوية و حرص و مراقبة القوى المقابلة لها في مجتمعاتها التي تكره بطبيعتها، الانغلاق و الحدود و “جوازات السفر”!!.
و حتى ألا تورين في كتابه الصادر مؤخرا”Défense de la modernité”)،وهو المشهور بنقده لها(الحداثة)،في كتاب مشهور (Critique de la modernité)، فإن القارئ المتفحص لثنايا الكتاب، يكتشف – إلى جانب كونه لا يتأطر ضمن ما يسمى بتيار ما بعد الحداثة، و لا هو ضدها -، أنه دفاع عن سيرورة إنجازاتها التي لم يتردد جيل دولوز في التنويه بها، أي عن نموذجها الاجتماعي و هو في حال “توازنه الأجمل”!، بعيدا عن “عولمة الاقتصاد و التصاعد المكثف للنزاعات الاقتصادية المتوحشة… و الأشكال الجديدة للهيمنة” ، و تخلّصها من اللحظة التي دخلتها اليوم و التي يسميها ب”لحظة الحداثة المفرطة” (l’hyper modernité) . وحين نضيف هذا الذي يقول ألان تورين اليوم عما لا يتردد في نعته ب “الزلزال”، إلى ما قاله في كتاب آخر منذ سنتين تقريبا، حول كون العولمة هي التحول الأساسي الذي شهده العالم منذ سقوط الشيوعية، و أنه ضمن هذا السياق الجديد نشعر أن الانقسام يسار/ يمين لم يعد يشتغل، ليس لأنه لم يعد هناك يسار و لا يمين، و لكن لأن الحياة داخل كل بلد باتت متحكّم فيها من طرف الدولة العامة للعالم، و بالتالي فإن التناقض الرئيسي بات يضع وجها لوجه من يقبلون الانخراط في العالم المعولم، و الذين يقاومون بكل ما يملكون من قوة هذه المقاربة ، حين نضيف الذي يقوله اليوم إلى ما قاله منذ سنتين، أكاد “أسمع” من بين سطور ما يكتبه “رنّات” سوسيولوجية أكثر وضوحا عن “الاجتماعي” لهذا الغرب الذي مسّته كل هذه التحولات و “الزلازل” التي يفصّلها، و الذي نعتبر الاختلالات التي مسته، أساس و علّة تلك التحولات و الزلازل، كما سنفصّل ذلك لاحقا.