سيف القدس رمزا لمناهضة العنصرية الصهيونية وتغيير الهندسة الديموغرافية(إبراهيم القادري بوتشيش)
ثمة من يرى في الانتفاضة البطولية التي قادتها المقاومة الفلسطينية طيلة الأيام الإحدى عشرة المجيدة، والموسومة ب”سيف القدس”، مجرد فصل من فصول مناهضة الاحتلال الصهيوني بالجهاد المشروع، وإمطار العدو بوابل من الصواريخ، تحقيقا لنظرية التوازن في الردع. غير أن قراءة الحدث بهذه الرؤية الاختزالية تكون قاصرة، من دون التوغل في عمقه، ورصد كل السياقات المؤطرة له، وقراءتها أيضا كانتفاضة جعلت في قلب اهتمامها رفض التمييز العنصري، والتصدي لإعادة الهندسة الديموغرافية المجالية التي يسعى الكيان الصهيوني لفرضها.
ولعلّ من القرائن التي تؤكد صحة هذا القول، أن الشرارة الأولى للانتفاضة المباركة انطلقت من قلب حي الشيخ جراح بالقدس الشرقية في البلدة القديمة الخاضعة للاحتلال الصهيوني، بسبب إجبار عائلات فلسطينية على إخلائه وتهجيرها منه قسرا، وإحلال عائلات يهودية مكانها. وبذلك يكون عنوان هذه الانتفاضة الجديدة ينطق بلغة المناهضة الصريحة للممارسات الصهيونية في التطهير العرقي، ومحاولات تغيير الخريطة البشرية بالتهديد والعنف والقتل والإبادة الجماعية التي تتعارض مع مبادئ القانون الدولي، باعتبارها جرائم ضد الإنسانية.
وعلى الرغم من أن الكيان الصهيوني يحاول تغليف هذه الممارسات العنصرية بغلاف قانوني تحت مبرر أن ما يقع هو مجرد نزاع عقاري بين عائلات وأفراد يحلّ عن طريق المحاكم الإسرائيلية، فإن هذا النزاع المزعوم يستند بدوره إلى تشريع عنصري تمّ إقراره سنة 1950، ثم أعيد تشريعه في سنة 1970 في صيغة قانون عنصري آخر تمّ إقراره في ظلّ إدارة الحكومات اليسارية التي كانت تشريعاتها -ولا تزال- تناقض مبادئها الداعية إلى حقوق الإنسان ومناهضة العنصرية والتوسع الإمبريالي. ويسمح هذا القانون لليهود بتقديم مطالبهم بخصوص ملكية العقارات التي تعود إلى ما قبل عام 1948، مستثنيا الفلسطينيين من هذا الحق، مكرسا بذلك عنصرية قانونية مقيتة.
إن ما وقع في حي الشيخ جراح، ليس سوى انعكاس أمين لسياسة الفصل العنصري المستندة إلى حزمة من إجراءات التهجير والقمع والتطهير العرقي الممنهج، من أجل إحكام السيطرة، وشرعنة الاغتصاب، ومحاولة فرض إسكات صوت الفلسطينيين، وقبولهم التعايش داخل المجتمع الإسرائيلي كمواطنين من الدرجة الثانية ، ومن ثمّ ضرورة قبولهم بأدنى الحقوق، والتأقلم مع هذا الوضع المهين لكرامة الإنسان. وهذه حقيقة كانت قد وقفت عندها المؤسسة الحقوقية العالمية “هيومن رايتس ووتش” عندما لاحظت في تقريرها الذي أصدرته سابقا أن الحكومة الإسرائيلية ترتكب جريمة الفصل العنصري.
ويستشف من هذه المعطيات أن معركة حي الشيخ جراح ليست مجرد حرب صواريخ فحسب، بل هي أيضا معركة وعي قانوني، تتوخى تجريم تصرفات الدولة العبرية، وإيقاف سياسة التمييز الاجتماعي بين ساكنة القدس، والإمعان في حرمان الفلسطينيين من الدخول والخروج بحرية، ومراقبة حركاتهم وسكناتهم ، في الوقت الذي يترك الإسرائليون يسرحون ويمرحون بأريحية.
وتبدو تجليات هذا التمييز العنصري الصهيوني أيضا في أوساط سكان الضفة الغربية والقدس الشرقية في المجال الاقتصادي، وخصوصا بالنسبة للدخل الفردي غير المتكافئ. فالدولة الإسرائيلية تعتبر العامل المقدسي الذي يشتغل في شركات إسرائيلية، الحائط الأقصر الذي يتمّ الدوس على حقوقه ، فلا يتقاضى من الأجر ما يتقاضاه نظيره الإسرائيلي، وهو ما يزيد من وقود الهشاشة والفقر في أوساط فلسطينيي الداخل.
وفي هذا السياق ذهبت صحيفة واشنطن بوست إلى إبراز تجليات التمييز العنصري داخل المجتمع الإسرائيلي والإقرار بوجود مواطنين من الدرجة الثانية، من خلال تشريعات وقوانين “القومية اليهودية ويهودية الدولة”، وخلصت إلى أن هذا التمييز العنصري الواضح كان من بين المحركات الأساسية لانتفاضات القدس ومختلف المدن والبلدات الفلسطينية داخل مناطق 48. ولعلّ هذا الشاهد ما يقوم قرينة على زيف أسطورة دولة إسرائيل الديموقراطية التي تقوم بنيتها على ثنائية القومية، وعلى نظام الفصل العنصري بين اليهود وعرب الداخل المقيمين داخل الخط الأخضر.
وفي مجال التطهير العرقي وتهجير الفلسطينيين، تروم استراتيجية الكيان الصهيوني أيضا إعادة هندسة ديموغرافية جديدة تحت غطاء ” قانوني”، اعتمادا على آلية هدم بيوتهم تحت ذريعة مخالفتها لقوانين البناء، والزعم أن بناءها يتمّ من دون ترخيص، مع استخدام كل وسائل التعجيز والتيئيس للفلسطينيين عند سنّ نظام رخص البناء لحرمانهم من الحصول عليها، خدمة لمآربهم العنصرية التطهيرية. وفي حالة أي حركة احتجاجية ضد هذا الواقع، تطبق مقولة عنف الدولة كآلية لنزع الملكية العقارية، والسيطرة على أراضي الفلسطينيين، في مسعى لفرض هندسة سكانية تهويدية كما حدث في حي الشيخ جراح .
والجدير بالذكر أن سرطان التطهير العرقي الصهيوني يقوم في مجمله على فكرة الإبادة الجماعية التي تمتح روحها من الفكر العقائدي اليهودي كما نصّ على ذلك ستيف ويلز في كتابه المعنون ” Drunk with Blood: Killing God in the Bible ” . لذلك فإن فكرة الإبادة العرقية التي يتصدى لها المقدسيون وغيرهم من الوطن الفلسطيني المحتل هذه الأيام ،تنبثق من العقيدة الصهيونية القائمة على لاهوت الإبادة، ومحو الآخر من الوجود والعمل على تنفيذ ((الميثاق الأبدى والعهد الإلهى والنقاء والتفرد والاستعلاء …. ويعبّر عن العلاقات والمعانى والتصورات العنصرية الإسرائيلية)).
ولتحقيق تلك الغاية، وظفت الدولة العبرية آليتين لا تخطئهما العين السليمة:
-أولاهما دينية، استخدمت فيها الفكر الديني والعقيدة اليهودية، لخلق منظومات طقوسية دينية تروم التفرد والاستئثار بالرحمة الإلهية من دون الشعوب الأخرى، حتى تصبح صهيون ” المدينة المقدسة مركزاً لمملكة الرب فى الأرض وموئل بهجتها ” كما أشار إلى ذلك جيمس فريزر في كتابه “الفلكلور فى العهد القديم”.
-أما الثانية فتكمن في تزوير التاريخ، وإسقاط اللاهوت على تفسيره، حيث أدرك مؤسسو الصهيونية، مدعمين بالغرب، أن تزوير التاريخ وتلفيق الافتراءات والأكاذيب المضادة لحقائق الوجود التاريخي الفلسطيني في القدس، يكون المبرر” القانوني” لعمليات التهجير واستخدام العنف، وتغيير الخريطة الديموغرافية بالإكراه والتضييق والقهر، وهو ما قطعوا فيه مراحل تعدّ خطيرة على الوجود الحضاري الفلسطيني، ونحسب أن ما حدث في حي الشيخ جراح يمثل أحد فصولها.
تأسيسا على هذا الواقع الذي بني على الكذب والتدليس، واختلاق التفسيرات اللاهوتية، والادعاء بالعرق اليهودي النقي، نحسب أن “انتفاضة رمضان” المباركة، تعد لحظة فارقة تعيد عقرب الساعة إلى نقطة البدء، بحثا عن الحق، ومناهضة صريحة للقوانين العنصرية وتغيير الخريطة الديموغرافية. لذلك فإن معركة سيف القدس لا ينبغي أن تتوقف، رغم الانتصار المعنوي الكبير الذي صفع دولة العدوان صفعات إذلال وامتهان، وكرّس مبدأ الثبات على الشرف، ويفترض أن تسير في خط لا ينفصل عن المعركة الأم، لتركيب أفق جديد يتأسس وفق معالم طريق التحرير الشامل.