شرح لاتيني غير معروف لكتاب الأجرومية: (عبد العلي الودغيري)
«متن الأجرومية» كتاب مدرسي صغير لخّص فيه مؤلفه أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصنهاجي المغربي المعروف بابن آجرّوم (ت 723هـ) أبواب النحو العربي، فأحسن التلخيص والتقريب، حتى طار صيته في الآفاق على غرار ملخصات ومتون أخرى، كالجمل للزجاجي، والألفية، ولامية الأفعال لابن مالك، مما كان لا بد لطالب العربية من تحصيلها. وبسبب هذه الشهرة التي نالها، وضعَ عليه علماء من مختلف العصور في أنحاء البلاد الإسلامية، عددًا من الشروح والحواشي كبيرًا. وهذا أمر معروف. ولكن الذي قد لا يعرفه الكثيرون هو أن الاهتمام بالكتاب تجاوز حدود العالم الإسلامي، وطرق أبواب الجامعات والمعاهد التي عُنيت بالدراسات العربية واللغات الشرقية في أوروبا أيضًا، فجعلت منه متنًا معتمَدًا في دراسة العربية وتدريسها. وسيطول الأمر لو تتبعّنا آثرَ هذا الكتاب في أنحاء العالم من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، لكن يكفي أن أشير هنا إلى واحد من أهم الترجمات والشروح الأوروبية التي لفتت نظري منذ أكثر من أربعين عامًا، وهو شرح كبير باللاتينية (في حوالي 350 صفحة) قام به راهب فرنسيسكاني إيطالي يدعى توماسُو أُوبيتشيني دي نوفارا ( ت 1634م). تمّ نشره في روما سنة 1631م، تحت عنوان: Grammatica Arabica … Agrumia appellata. Cum versione Latina, ac dilucida expositione. والعجيب في الأمر أن المؤلف سلك في شرحه طريقة أسلافنا من العلماء، فكان يأتي بجملة من كلام المصنف كما هي بالعربية، ثم يترجمها إلى اللاتينية، ويتبع الترجمة بحل ألفاظها ومعانيها اللغوية والنحوية، ومنها ينتقل إلى الجملة أو الفقرة الموالية، وهكذا دواليك، من أول باب في الكتاب وهو( أنواع الكلام )، إلى آخر باب فيه وهو باب المخفوضات، متعقّبًا كل جملة وكلمة في المتن بالترجمة والشرح مع استعمال الأمثلة العربية المناسبة. وعناية الجامعات والمعاهد الأوروبية الكبرى بدراسة العربية وما كُتِب بها من علوم، في نصوصها ومتونها الأصلية، ظلت تقليدًا متّبعًا إلى عهد قريب جدا. وأذكر بالمناسبة أني حين التحقت بجامعة الصوربون الفرنسية ما بين 1978 و1981، لاستكمال دراساتي العليا في قسم الدكتوراه، وجدت أن جيل كبار المستشرقين الفرنسيّين قد ولّى أو كاد. لكني لقيتُ هناك فيمن بقي منهم، عالم الاجتماع المشهور جاك بيرك الذي كان يلقي درسًا أسبوعيّا في الكوليج دي فرانس حول أوضاع العالم الإسلامي المعاصر، وهو صاحب كتاب معروف عن أبي علي اليوسي، كان يشير إليه بين الحين والآخر في سياق ما يأتي من كلامه عن المغرب، فسارعت إلى اقتنائه من مكتبة صغيرة كانت في زقاق قريب من الصوربون. وأذكر منهم الأستاذ أندري ميكل صاحب كرسي اللغة والأدب العربيين في الكوليج دي فرانس أيضًا، وهو إذ ذاك ما يزال في أوج شبابه. وكانت له حلقة دراسية أسبوعية( سيمنار) خاصة بألف ليلة وليلة ومناقشة ترجمتها وموضوعاتها وقضاياها الفنية والأسلوبية واللغوية بحضور جمال الدين بن الشيخ الأستاذ بجامعة فانسين يومذاك وأساتذة آخرين، معتمِدين في المناقشة والترجمة طبعة بولاق من الكتاب التي ظهرت في القرن التاسع عشر. وكان منهم خارج كوليج دي فرانس عالم لغوي اختص بكتاب سيبويه وأخرج له معجمًا مفهرِسًا سنة 1976. وكانت له حلقة أسبوعية في المدرسة التطبيقية العليا التابعة للجامعة. وكان موضوعها طريفًا جدا بالنسبة لي، يدور حول كتاب المنصوري في الطب لأبي بكر الرازي والمقابلة بين أصله العربي وترجمته اللاتينية. فكانت تحضر إلى جانبه سيدة متخصّصة في اللاتينية القديمة، فتقرأ الترجمة وهو يقابل معها النص العربي، بينما نحن المتحلقين حولهما، نستمع ونعجب لهذا الاهتمام بمثل هذا الموضوع الطبي الدقيق من عالم في اللغة مختص في سيبويه. وكانت متعتُنا تزداد حين يُطلب من أحدنا أن يدلي برأيه في حل مشكلة لفظ من ألفاظ الرازي التي يستغلق أمرها على الأستاذ. خلال تلك الفترة من الكد والاجتهاد، اكتشفتُ، وأنا المغربي المعتز بتراث أجداده وأسلافه وعلمائه الكبار، وجود نسخة من هذا الشرح اللاتيني للأجرومية في الجناح الخاص بالكتب النادرة بالمكتبة الوطنية بباريس، ولكن الاستفادة منه وقتها كانت محدودة جدا. أما اليوم فإن الوسائل الرقمية المتاحة يسّرت كثيرًا من الأمور التي كانت مستعصية علينا أو مستحيلة في ذلك العهد الذي كابدنا فيه ما كابدنا من مشقة البحث عن المصادر ولاسيما النادرة منها.