المقالات

شروخ النظامين المادي والرمزي(عبد السلام ديرار)

“النظام الرأسمالي في أزمة”، “النظام العولمي النيوليبرالي يتوحّش”، “الرأسمالية الشّائخة”، “الحضارة البورجوازية تتخلى عن قيمها”، “دولة الرفاه و الرعاية في مهبّ الريح”…، هذا من جهة، و من جهة أخرى: “انفضاح هشاشة الديمقراطية”، و “الصعود المتزايد لليمين المتطرف”، و “تراجع صوت التنظيمات الموازية للدولة (النقابات على الخصوص) كشريك تفاوضي للحكومات ضمن دولة قانون و مؤسسات”، “وصول أشخاص غرائبيين إلى أعلى مناصب السلطة”…، هذه كلها عناوين باتت مألوفة  بالغرب، تشير إلى أحداث و وقائع، تخص الأولى منها، الهزات العنيفة التي تمس ما ترسّخ في مخيال الإنسان الأوربي و الأمريكي على الخصوص عن النموذج الاقتصادي الذي يحيا في كنفه، باعتباره نموذجا ليبراليا راسخا ! مستقر النمو الاقتصادي و البناء الاجتماعي، و ضامن للرخاء و الرفاه، متجه باستمرار نحو مزيد من العدالة الاجتماعية و المكاسب!. و تخص العناوين الثانية التآكل المتزايد للديمقراطية، والعجز المتصاعد للدولة على فرض السيطرة الديمقراطية الفعلية على كثير مراكز نفوذ اجتماعي واقتصادي تتحدّاها باستمرار، و الاهتزاز المتنامي للثقة في المؤسسات…و العناوين مجتمعة، تقاطيعها بعواصم الغرب، و التي لا يمكن للعين المجردة أن تخطئها (اختلال التناوب التقليدي للأحزاب المحافظة و الأخرى الديمقراطية الاجتماعية على السلطة، عودة المفقرين و المقصيين تماما إلى جنبات الأرصفة و ملتقيات الطرق، أشكال احتجاج على الحرمان، و أساليب لمواجهتها غير مألوفة في دولة الرعاية…)، هذه العناوين مجتمعة تؤشر على أزمة بنيوية عميقة ل “الاقتصادي”، و أخرى أكثر عمقا ل “السياسي” بالعواصم التي ما فتئت تروج، منذ قرن، لحداثتها السياسية و الاقتصادية، بل و ما بعد حداثتها و فائقتها أيضا.

  و إذا كانت الكتابات و الأبحاث و الدراسات حول الاختلال الاقتصادي، و الانحرافات عن النموذج المروّج له منذ عقود، اتسعت في العقدين الأخيرين،  حدّ اتخاذها شكل  تيار أو مدرسة متكاملة في علم الاقتصاد ([1])، و مثلها حول الشروخ التي ألمّت بالنسق السياسي الديمقراطي بعواصمه التاريخية و اهتزاز كل شعاراته التي روّج لها باعتبارها مرتكزاته أو توابثه التي كان يفاخر بها في مواجهة عدوه (النموذج الاشتراكي) لعقود طويلة، من قبيل “دولة الحق و القانون”، و الديمقراطيات الراسخة” و “حرية التعبير” … و”المساواة”…و “أحسن طريقة للوجود الإنساني”  ([2])، إذا كان هذا ما آل إليه حال الاقتصادي و السياسي بالغرب، فماذا عن “الاجتماعي”؟ ما هو الاجتماعي في هذا الاقتصادي و هذا السياسي اللذين يشهدان كل هذا التحول؟ ألا تكون تحولات عميقة (غير مرئية، أو غير مفكّر فيها بعدُ، في هذا الاجتماعي، هي أصل اهتزازات الاقتصادي و السياسي،  أو على الأقل في تفاعل كبير معها؟ ألم يكن الاقتصادي و السياسي اللذين عاش في كنفيهما الغرب، وهما في أوج تحقق “نموذجهما الأمثل”  طيلة القرن العشرين، نتاج سيرورة تحولات اجتماعية، بدأت منذ قرنين تقريبا، و استقرت على ما استقرت عليه، خلال القرن العشرين، و في النصف الثاني منه، أو بعد الحرب العالمية الثانية، بالصورة الأكثر نموذجية على الخصوص.وما الصورة النموذجية غير الاستقرار”النهائي” لنموذج اجتماعي تسود فيه طبقة اجتماعية هي البورجوازية، هذه الطبقة التي سوّقَتْ نفسها (للمسودين) تختلف جذريا عن الطبقة السابقة لها ( النبلاء)، و يقبل فيه المسودون بالوضع الجديد عموما، بثمن أولا، و تحت تأثير سحر شعارات هذه البورجوازية، باعتبارها طبقة عقلانية (لن يحرق معها بعد اليوم “جيودانو برونو” آخر، و لن يخاف”كوبيرنيك” جديد من البوح باكتشافاته، و لن يكون “سبينوزا” مضطرا ل”المراوغة” و كثير حذر في رفض “خوارق” الميتافيزيقا، و لن  يطارد  معها فيلسوف أو فنان !). و وطنية، لا يمكن تصوّر تآمرها على أوطانها. و ديمقراطية لا تحتكر السلطة استنادا إلى شرعية ميتافيزيقية! أو تقليدية، و تقبل ب “لعبة” ديمقراطية هي من وضع حدودها… ثم طبقة مسودة أو “الطبقة العاملة” بلغة الماركسية التي لم يعد إلا القليلون اليوم يواظبون على استعمالها، و كأنها لم تعد تشير إلى واقع و وقائع، و هو ما له الكثير من المعنى ضمن عملنا، كما سيتضح لاحقا. و المهم، هنا أن هؤلاء المسودين ضمن النموذج الاجتماعي الجديد، لم يعودوا هم أنفسهم ضمن النموذج القديم، في كل شيء فيهم، لم يعودوا أقنانا شبه مستعبدين، قابلين لشرطهم تحت التأثير الفظيع للدين و رجاله، و الحرمان المروّع من أبسط “المهارات العقلية”…هم اليوم “مواطنون”، و المدرسة (الجهاز الإيديولوجي للطبقة السائدة الجديدة، المسموح له بتوزيع حدّ أدنى من الخيرات الرمزية) إجبارية!، إنهم واعون بشرطهم، لا بل و يملكون ما به “يحلمون”! فوجدناهم طيلة النصف الثاني من القرن العشرين على الأقل، و بكل عواصم الغرب، “يراقبون” و يحتجون، و بالضبط (فيما يخص عملنا) يمنعون النموذج الاجتماعي (الجديد) من اختلال موازينه، أي من الرجوع إلى الوراء أو الارتكاس، بل تمكنوا ببعض العواصم من الذهاب به (النموذج الاجتماعي) إلى حدوده القصوى أو “نموذج أمثل” له، كما حصل بالبلدان السكاندنافية، و ما يصطلح عليه “بالديمقراطية الاشتراكية”، حيث اضطر السائدون إلى الرضوخ لانتزاع المسودين لمكاسب واسعة في العدالة الاجتماعية و الحرية و كل ما يضمن للإنسان إنسانيته. فما الذي حصل (و يحصل اليوم بشكل متسارع) ليهتز كل هذا البناء الاقتصادي و السياسي؟ ما هي مصادر و عوامل هذا الاهتزاز؟ هل يمكن التسليم بأن الأمر لا يتعدى اختلالات اقتصادية و أزمات مالية (عابرة)،  و انحرافات بسيطة للديمقراطية عن ديمقراطيتها؟!، و أن الأمور قابلة للعلاج على أيدي خبراء الاقتصاد و “سحرة” الأرقام!، و تقويم اعوجاجات و انحرافات ممارسات ضمن الديمقراطية (الراسخة!)، أم أن جذور كل ذلك تكمن في عودة (في غفلة من المعنيين) لمرجعيات و تراتبيات و “مبادئ” للرؤية و التقسيم، و علاقات رمزية، و تفاقم لتفاوتات ، و تدمير لقيم و تحجيم ل “وعود” …، تخصّ “الاجتماعي”، و منه انعكست (تلك العودة) اختلالات في الاقتصادي و انحرافات في السياسي؟  و بتعبير أكثر وضوحا: أليست التحولات التي عرفتها الطبقة السائدة بالغرب (البورجوازية) من حيث تمكّنها الأقصى من زمام الأمور وميل كفّة موازين القوى لصالحها بشكل واضح، بعد الوهن الذي أصاب “شريكها” في النموذج الاجتماعي الغربي، تحت تأثير “تدليله” لعقود طويلة، ثم تحت تأثير تفكك المعسكر الاشتراكي (أو تفكيكه!)، و عوامل أخرى سنعود إليها ضمن عملنا، و بالتالي بداية تصرّفها (الطبقة السائدة) بعيدا عن كثير حساب ( كما دأبت طيلة عقود توازن موازين القوى) ل “المراقبين”و “المشمّرين على السواعد” لتقويم الانحرافات…، أليست تلك التحولات هي أساس و مصدر انفراط عهد “الاقتصادي” و “السياسي” الراسخين!؟. أليس الانحرافات الاقتصادية و الاختلالات و الاهتزازات السياسية مجرد ارتدادات للهزة العنيفة، أو بالأحرى “الزلزال” الذي يشهده ” الاجتماعي” بالغرب في المرحلة الراهنة؟ أليس “الاجتماعي” بمَعْنَيَيْه السوسيولوجي و الأنتروبولوجي، بما هو رسم و تحديد للمواقع الاجتماعية، أي بالنسبة للخيرات المادية و الرمزية، و ل “الأدوار” و المخيال الجمعي و حدود “الخيال”، و ل “قيم” الجماعة (المجتمع)…، أي المتضمّن لأشكال مواجهة الإنسان للطبيعة، و لطبيعة العلاقة بين الإنسان و الإنسان ضمن هذه المواجهة، أليس ذلك “الاجتماعي” هو الذي يحدد طبيعة اشتغال “الاقتصادي” و حال “السياسي”؟


[1]– انظر كتابات علماء اقتصاد من أمثال الفرنسي الشاب Thomas Pikelly، و الكتابات المتأخرة لسمير أمين، و كتابات معظم الاقتصاديين الذين يعدون التقارير الدورية لمنظمة OXFAM حول التفاوتات و توزيع الثروة.

[2]– انظر كتابات مفكرين و علماء من أمثال:Primo Levy  و Michel Butel و Emanuel Todd وDenis La Blame  و Francis Dupuis- Deri.و الكتابات ذات الطبيعة السياسية لبيير بورديو و جيل دولوز و سمير أمين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق