المقالات

صورة الإسلام في المنظور الفلسفي التفكيكي(التيجاني بوالعوالي)_1_

لا يكاد يحضر الفيلسوف التفكيكي جاك دريدا Jacques Derrida (1930- 2004) في الدراسات الأكاديميَّة والفكريَّة التي اشتغلت بصورة الإسلام في الغرب، رغم أنَّه تعرَّض في المرحلة الأخيرة من حياته لموضوع الإسلام في مجموعة من الحوارات الصحفيَّة واللقاءات الفكريَّة، ويمكن ردُّ ذلك إلى كونه اشتهر أكثر في ميدان الأدب والنقد التفكيكي والفلسفة. وقد استرعت نظري أهميَّة تصوُّراته دريدا حول علاقة الغرب بالإسلام، التي حاول استيعابها من منطلق تفكيكي تعدُّدي، وفّق فيه بين تقويض جملة من المفاهيم النمطيَّة المتداولة، كصراع الغرب والشرق والتمركز الغربي والديمقراطيَّة من جهة، وبين اعتبار التعدديَّة الإطار العام الذي وضعته العلمانيَّة لتنظيم التنوُّع الثقافي والديني والإثني داخل المجتمعات المعاصرة المتعدّدة من جهة أخرى.

لذلك كان من الأهميَّة بمكان تناول هذا الجانب الفكري من فلسفة دريدا الذي يغيب في العديد من الدراسات الفكريَّة حول الإسلام والغرب، لا سيَّما وأنَّه تعامل مع ما هو إسلامي بشكل موضوعي منصف، بينما مارس على أوروبا الإمبرياليَّة والغرب النرجسي نقداً عنيفاً شكَّك من خلاله في حقيقة الثقافة الغربيَّة التي تمتدُّ جذورها في الماضي الإسلامي المشرق. ثم إنَّ انتماءه اليهودي لم يقف سداً أمام تعاطيه الإيجابي مع الثقافة الإسلاميَّة التي يحترمها رغم أنَّه لم يتعرف عليها، واللغة العربية التي يُكنّ لها التقدير رغم أنَّه لم يتعلمها ولم يرطن بها.

وقد توزَّعت هذه المقالة التي عقدتها لصورة الإسلام في المنظور الفلسفي التفكيكي في ثلاثة مباحث: قدَّمت في أوَّلها لمحة موجزة عن شخصيَّة دريدا، وعن تفكيكيته التي يرفض أن يسميها نظريَّة أو منهجاً، أمَّا المبحث الثاني فقد خصَّصته لعلاقة التفكيك بالتعدديَّة التي باتت تشكّل إطاراً منظماً للمجتمعات المعاصرة التي تتَّسم بالتنوُّع العقدي والعرقي والسوسيو- ثقافي، في حين قاربت في المبحث الثالث علاقة الإسلام مع الغرب من خلال منظور دريدا التفكيكي.

عن دريدا والتفكيك

ولد الفيلسوف التفكيكي المثير للجدل جاك دريدا في 15 يوليوز 1930 بالأبيار في الجزائر، وهو ينحدر من عائلة يهوديَّة هاجرت من الأندلس إلى شمال إفريقيا. ورغم انتقاله إلى فرنسا واستقراره هناك، ظلت الهويَّة الجزائريَّة حاضرة في ذاكرته، وقد عبَّر عن ذلك في لقاء مطوَّل أجراه معه المثقف الجزائري مصطفى شريف بقوله: “سوف أحدثك اليوم بكوني جزائرياً، كمن ولد يهودياً جزائرياً، ومن ثمَّ فهو ينتمي إلى هذا المجتمع”.[1]

ولعل هذا الانتماء الوجودي والتاريخي إلى بقعة محسوبة على العالم العربي الإسلامي جعله يُكنُّ تقديراً كبيراً للغة العربيَّة والتراث الإسلامي، ففيما يتعلق باللغة العربيَّة لم يحظَ دريدا بتعلّمها، لأنَّها كانت تعتبر آنذاك تهديداً للاستعمار الفرنسي في الجزائر، لذلك تمَّ حظر تدريسها، ولو أنَّه أتيحت له الفرصة لتعلَّم العربية دون تردُّد. [2]أمَّا التراث الإسلامي فقد ألهم دريدا بشكل أو بآخر كما يقرّر بنفسه: “إنَّ التراث الذي تلقيته في الجزائر من الأرجح أنَّه ألهم عملي الفلسفي”.[3]

عام 1949م غادر دريدا الجزائر نحو باريس لمتابعة دراسته التي كان قد استهلها في مدرسة بن عكنون بالأبيار، [4] وبعد أكثر من فشل دراسي انتهت دراسته الأكاديميَّة في الفلسفة بجامعة باريس، وكتب رسالته لنيل شهادة الماجستير حول الفيلسوف الألماني هوسرل، ثم هاجر بعد ذلك كفيلسوف طموح إلى الولايات المتحدة الأمريكيَّة، حيث تابع مساره الدراسي في جامعة هارفرد. [5]

ورغم الإخفاقات الكثيرة التي ألمَّت بدريدا في حياته الدراسيَّة والاجتماعيَّة، فإنَّه لم يستسلم أبداً، بقدر ما زاده ذلك قوَّة وإصراراً. ولعلَّ تلك الظروف الصعبة التي مرَّ بها هي التي صنعت منه ذلك الفيلسوف الذي لا يُشقُّ له غبار، والذي تمكَّن من أن يخلق له حيزاً معتبراً في الفكر الفلسفي والنقدي الحديث، حيث أضحت فلسفته التفكيكيَّة مرجعاً رئيساً في الدراسات الأكاديميَّة الأدبيَّة والفكريَّة، بل صار يُشار بالبنان إلى مؤلفاته المتنوعة، رغم أنَّ أغلبها يتَّسم بالغموض والغرابة والتعقيد، وتجدر الإشارة هنا إلى بعض العناوين المشهورة التي أثرىبها دريدا المشهد الفكري العالمي مثل: في علم الكتابة، مسارات فلسفيَّة، صيدليَّة أفلاطون، المهماز، الصوت والظاهرة، الكتابة والاختلاف.

ولا يمكن الحديث عن مفهوم التقويض أو التفكيك Déconstructionعند دريدا دون الإشارة إلى الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر الذي يُعتبر مُلهمه الحقيقي، فهو الذي، كما يقول دريدا، “قرع نواقيس نهاية الميتافيزيقا وعلّمنا أن نسلك معها سلوكاً “استراتيجياً” يقوم على التموضع داخل الظاهرة، وتوجيه ضربات متوالية لها من الداخل. (…) إنَّ الميتافيزيقا، كما عبرتُ عنها في موضع آخر، ليست تخماً واضحاً، ولا دائرة محدَّدة المعالم والمحيط، يمكن أن نخرج منها ونوجه لها ضربات من هذا “الخارج”. ليس هناك من جهة “خارج” نهائي أو مطلق. إنَّ المسألة مسألة انتقالات موضعيَّة، ينتقل السؤال فيها من “طبقة” معرفيَّة إلى أخرى، ومن مَعلم إلى مَعلم، حتى يتصدَّع الكل، وهذا هو ما دعوته بـ “التفكيك”.”[6]

أمَّا مقاربة دريدا لثنائيَّة الإسلام والغرب فتقترب كثيراً من فلسفة التعدّديَّة، التي تمنح فسحة لمختلف الأديان والثقافات ووجهات النظر، فالجديد الذي تطالعنا به أفكاره الأخيرة هو أنَّه يقوّض جملة من المفاهيم والآراء السائدة، كالغرب وأوروبا والدين والعقيدة والعولمة وغيرها، ليعيد شحنها ببدائل معنويَّة أخرى، كما أنَّه يفكك العلاقة الراهنة بين الإسلام والغرب ثم يعيد صياغتها من جديد، عندما يتحدث عمَّا يسمّيه التحالف العالمي أو الحضارة الكونيَّة. ولعلَّ هذا يتماشى مع المجتمع المتعدّد ثقافياً، حيث التعدُّديَّة الحقيقيَّة كما يعتقد دريدا “ليست أقلَّ من ذات الحضارة نفسها، فالتعدديَّة تعني بالنسبة إليَّ: الآخر، ومبدأ الاختلاف واحترام غيريَّة الآخر تتموضع في أصل الحضارة”.[7]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق