طه عبد الرحمن بين التأمل الفلسفي والتكهن السياسي(عبد النبي الحري)_2_
الحل الإئتماني للصراع والثورة الأخلاقية
يقترح طه حلا لهذا الصراع الإسلامي-الإسلامي يسميه ب”الحل الإئتماني، الذي يتطلب حصول ثورة أخلاقية في النظامين السعودي والإيراني؛ فالنظام السعودي يحتاج، أساسا، إلى تخليق الفقه، والنظام الإيراني يحتاج أساسا، إلى تخليق السياسة. (ص121)
إن هذا “التخليق الإئتماني” ليس ضربا من الطوبى والخيال، الذي لا يمكن أن نجد له سبيلا للتفعيل على مستوى الواقع الملموسن بل إنه، في نظر طه، عبارة عن واقعة واقعة تاريخية تجسدت، أول ما تجسدت، في عهد نبي الإسلام محمد في جزيرة العرب. (ص124)
تروم الثورة الأخلاقية إلى بناء “وحدة ائتمانية” يتحد فيها الديني بالسياسي، كما اتحد، في ما يعتبرها طه، “الوحدة الآئتمانية الأصلية“، التي أنشأها النبي في المدينة، وهي وحدة لا هي بالسياسة، كما هو الأمر عند الدنيانيين (=العلمانيين)، ولا دينية، كما هو الحال عند الدنيانيين (=الإسلاميين)، وإنما هي وحدة تجمع بين ما تفرق عند الاتجاهين معا، فهي “تصل بين الاحتفاظ الذي يميز أمانة المستودعية والاختيار الذي يميز أمانة المسؤولية”. (ص125)
لقذ تعرضت هذه “الوحدة الإئتمانية الأصلية، إلى “الابتلاء” بعد وفاة النبي مباشرة، حيث يعتبر طه هذا “الابتلاء” بمثابة قانون إلهي، وفق تحليله الإئتماني، الذي استخلص منه، ما اعتبرهما، “حقيقتين اثنتين”، أولهما، أن “الفرقة التي سوف يتعرض لها المسلمون هي أثر من آثار العداء الأصلي الذي وقع على الإنسان منذ أول وجوده، وذلك ابتلاء لهم”؛ وثانيتهما، أن “السياسة تدبير للعداء، فلا توجد إلا حيث يوجد العداء، إن واقعا أو احتمالا؛ فالابتلاء، بحسب المنظور الإئتماني، إنما هو المحك الذي تختبر به الإرادة في التصدي للعداوة الأصلية التي تبث العداء حيث الولاء والفرقة حيث الوحدة”. (ص128)
وإذا كان الصراع السعودي الإيراني هو تجسيد معاصر لهذا الابتلاء، الذي اتخذ له في كل زمن من أزمنة التاريخ الإسلامي صورة مختلفة، حاول طه تتبع صورها قارئا لها وفق رؤيته الخاصة، فإن السؤال المطروح هو كيف نواجه ويلات هذه الفرقة اليوم؟ وكيف تبني الأمة وحدتها مستقبلا؟
ينطلق طه دائما من نموذجيه المفضلين: النظامين السعودي والإيراني، فالأول في حاجة إلى “فقيه تعرفي“، يحرره من تبعيته للآخر وما يرتبط بها من فقدانه الثقة في ذاته، والثاني يحتاج إلى “سياسي تقربي“، يحرره من تبعيته لذاته، وما يرتبط بها من إفراط اغتراره بقوته.
النظام السعودي وحاجته إلى “فقيه تعرفي”
ستقوم الثورة الأخلاقية، إذن، بواسطة عنصرين فاعلين، هما، “فقيه تعرفي” و”سياسي تقربي”، يأخذان بمبدأ المؤانسة عوض مبدأ المواطنة، بحيث يتجاوزان الحدود الجغرافية والحدود الطائفية؛ ف”المرابط المؤانس”، فقيها كان أو سياسيا، يسعى إلى دفع الضرر على الإنسان من حيث هو إنسان وليس من حيث هو مطايف أو مواطن في هذا النظام أو ذاك. ص170
إن النظام السعودي في حاجة إلى من يخرجه من حالة من التعبد للآخر إلى حالة التعرف إلى رب الآخر ص172، ولا يتأتى ذلك إلا ل”فقيه تعرفي”، صاحب منظور سياسي مستقل، لا يخضع لتوجيهات النظام ولا يلجأ إلى تعليمات الآخر.
وبناء على هذا المنظور المستقل يصدر فقيهنا التعرفي مختلف اجتهاداته، النابعة من المرجعية الإسلامية، التي تصل بين الديني والسياسي، ويخلص النظام السعودي من “الفقه التقنني” الذي يرد الأوامر الإلهية إلى إكراهات لا إلى خيارات مما يحول بين النظام السعودي والوصل بين الديني والسياسي بمعناه الائتماني ص175.
إن طبيعة نشأة “الفقه التقنني”، في صورته الوهابية، التي قامت على اساس واقعة تاريخية، وهي اقتسام النفوذ بين جماعة محمد عبد الوهاب وال سعود، بحيث تولت الوهابية الشأن الديني وتكلف آل سعود بالشأن السياسي، جعلته متقبلا لروح الفصل بين الديني والسياسي ص176.
وحده “الفقيه التعرفي” القادر على إخراج النظام السعودي من ويلات “الفقه التقنني”، باعتماده على مبداين ائتمانيين سيهديانه إلى سبيل الخروج من تعبد الآخر؛ أولهما:مبدأ تقديم “اعتبار معبودية الإله على اعتبار مأمورية الإنسان”، الذي يعطي الأولوية لمعرفة المعبود على عبادته حتى يعبد عن علم، وهذا يؤدي إلى التخلص من التبعية للبشر بعبادة رب البشر، وثانيهما، مبدا تقديم “اعتبار ائتمانية ائتمانية القيم على اعتبار إجبارية الأوامر”، الذي يقدم القيم الأخلاقية التي تتضمنها الأوامر الإلهية على ظاهر الأوامرالإلهية، ص177 وهذا، يؤدي بدوره، إلى التحرر من التبعية للاخر بفضل ما تمنحه هذه القيم وما تمنحه من طاقة وقوة روحية. 178
سيستغني، النظام السعودي، في حال اهتدائه بفقه تعرفي، على اي حاجة لقمع المجتمع، لأن سياساساته أصبحت لا تباعد بينه وبين مجتمعه، لأنه سينبذ وراء ظهره سياسات التبعية للآخر، التي توسع الهوة بينه وبين مجتمعه، وبخروجه من ورطة تعبده للآخر سيكف عن استعباد أبناء شعبه، فيستعيد إنسانيته باعادة اإلإنسانية لهم. ص178
النظام الإيراني وحاجته إلى “سياسي تقربي”
إذا كان “الفقيه التعرفي” هو الذي سينقدم النظام السعودي من ورطة “انقلاب الوجهة” و”التعبد للآخر”، فإن النظام االإيراني في أمس الحاجة اليوم إلى “سياسي تقربي” يخرجه من آفة “اغتراره بذاته” و”تعبده لذاته”.
سيحدث السياسي التقربي نقلة نوعية في النظام الإيراني تجعله يتجاوز علتين متكاملتين، أولهما علة تسييس الدين، وتوظيفه توظيفا سياسيا، بحيث يزن فقهاؤه المتسيسون كل الأمور الدينية بميزان السياسة، لأن الولاية عندهم مقدمة على العبادة، كما تمت ذكر ذلك سابقا؛ ص181وثانيتهما، إطلاقية السلطة واستبداديتها، من خلال اعتبارها سلطة الولي الفقيه سلطة مطلقة، لا تقيدها قيود وتحددها حدود، باعتبارها نيابة عن الرسول من جهة، وعن الإمام المعصوم من جهة ثانية. 182
إن مهمة “السياسي التقربي” تستمد قيمتها من حرصه الشديد على موقفه الديني المستقل، عن النظام والسلطة، فهو لا يرد الدين إلى السياسة ولا يطلق يد السلطة، حتى تحتكر الدين والدنيا معا ؛ بل يضع قيودا أخلاقية للسياسة، كفيلة وضع حد لآفة التعبد للذات التي سقط فيها النظام في إيران. 182
ومتى قام “السياسي التقربي” بنقل النظام الإيراني من حالة “التعلق بذاته” إلى وضعية “التعلق بربه”، سيتخلص هذا النظام من حجاب اغتراره بقوته وقدرته التي تحول بينه وبين خصومه، فيجعل الآخرين يطمئنون لوسائله، وفي مقدمتهم النظام السعودي 186، الذي سينفتح له باب التواصل معه، ويزداد صبره على قبول اختلافه. والخلاصة، التي ينتهي إليها، طه، حول الصراع الإسلامي-الإسلامي، والذي خصص له، فصولا ثلاثا متتابعة، هي حاجة الأمة إلى ثورة أخلاقية، تخرج النظام السعودي من الحالة التعبدية للآخر، وتخرج النظام الإيراني من الحالة التعبدية للذات. مما يتيح فرص اللقاء بين النظامين؛ مما سيتخلق، في نظره، “واقعا ائتمانيا” غير مسبوق، ص189″(…) يجعل سلطان الأمة يثبت إيمانها بما يقوي إرادة الذات”، و”(…) يجعل إيمان الأمة يؤسس سلطانها بما يوسع أفق التعامل الأخلاقي مع غيرها من الأمم”. ص189