طوفان الأقصى، موقف متحيز غير موضوعي(عادل بن إيدامو)
إن طوفان الأقصى كما شهده العالم محض توفيق ونصر إلهي ينبئ عن العِظم، ولا أعظم ممن طلب كرامة الدنيا والآخرة وسعى لها سعيها، فالأرض للسواعد المقاومة التي تحررها، والولاية واجب الأخوة وبرهان صدق الادعاء: ادعاء النصرة وادعاء الانتماء لأمة النور والكمال المحمدي صلى الله عليه وسلم، الذي علَّم أن الأخوة لا تُسْلم. وإن المدعي لقيط لا يعرف له نسب ولا يدّعيه أحد.
وطوفان الأقصى في ربيع الأنوار المحمدي اختبار لصدق الانتساب له صلى الله عليه وسلم خدمة لأمته وحمل لهم دعوته، فهو محض الرحمة للعالمين ولأمته، ومن ثم لزوم الاتصاف بجوهرهم المحمدي من الرحمة في الصلة بأمته والبشرية جمعاء، وذلك بالتفاني في دعوتهوالقيام بأمره والاحتماء بنهجه. والحال أن حقيقة الانتساب له صلى الله عليه وسلم إنما في ديدن المحب بمكانه من المحبوب، تأسرهم الصلة بما له صلة بالمحبوب، حتى يصبح الرضا والغضب والانبساط والانقباض يدور في فلكه صلى الله عليه وسلم.
كما أن طوفان الأقصى نزر من تجليات الرحمة الإلهية التي ألفت المقاومة على واجب الجهاد، وألفت قلوب الأمة على واجب النصرة دونا عن الورِق والعرَض، إذ هي رحمته لما قال سبحانه (ولكن الله ألف بينهم) الأنفال،63. وهي كذلك رحمته سبحانه باعث الصمود والثبات، ومدعاة الشوق والتشوف إلى لقائه سبحانه في معراج دائم الصلة به، في رحلة “جمالية الموت” المجيدة حتى اليقين، وذلك حين يعيد فعل المقاومة تعريف الموت باعتباره الشهادة على الحق والقيام بالقسط في الدنيا، وكذا باعتباره شهادة الحياة عند الله والرزق.
إن ما جسدته المقاومة الفلسطينية في “طوفان الأقصى”، تعبير فصيح صريح عن رفض الانصياع والحرص على خيار المقاومة بلا هوادة للاحتلال الصهيوني الاستيطاني الإحلالي، في مشهد الثبات المسدد المؤيد لفسطينيي الداخل على عكس عرب الخارج. وذلك وفقا لما عبر عنه أستاذنا عبد الوهاب المسيري -رحمه الله- بالنموذج الإدراكي الانهزامي الذي هيمن على الإنسان العربي وحجب عنه رؤية مؤشرات النصر والتمكين وركز ناظريه على مؤشرات الهزيمة.
وهو نفسه الذي أبدع في فقه التحيز المنسجم وطبيعة الإدراك الإنساني لبيئته الحضارية ونماذجه المعرفية الخاصة، التي تشكل أسس الممانعة في واقع التردي العربي، أو منطلقات المسخ والتشويه والتخلف والتبعية والذوبان والتلاشي في نماذج الآخر ورؤاه، وذلك لــمَّا يتم التخلي عن التحيزات الخاصة الناتجة عن خصوصية الواقع التاريخي والحضاري للأمم والشعوب.
من ثم فصناعة الموقف تستوعب المقاربة الواقعية السياسية وتتجاوزها، لاعتبار القضية ذاتية من حيث كونها انتماء لا يقبل الحياد عن واقع الشعب الفلسطيني-العربي-الإسلامي والانعزال عن نضال الإنسانية جمعاء؛ فهي منذ أن ولدت لم تكن بالمحلية ولا الإقليمية، وإنما كانت واستمرت دولية الطابع لعالمية الحركة الصهيونية وارتباطها بالاستعمار العالمي، ولأنها تتعلق بالأرض العربية والمقدسات الإسلامية.
فمن جهة المشروع الصهيوني وحواضنه، اعتقد أو أريد له ذلك، أن فلسطين هي اللقمة السائغة لا ريب، وجنة عدن الموعودة، وعلى عكس المؤمل غدت فلسطين مقاومة تلفح الوجوهَ أُوارُها وتُحرق الجلود نارها، فصار كل إنجاز عسكري إسرائيلي “عقما للانتصار” بلغة الفيلسوف الألماني هيجل، في مشهد التنامي المستمر للإحساس الصهيوني بالورطة التاريخية.
أما من جهة الحاضنة الإقليمية العربية الإسلامية للمقاومة الفلسطينية، فهي حاضنة غثاء. يعبر عن ذلك الروائي اليساري ميلان كانديرا في القسم السادس من “فن الرواية”، كيف أن الأوضاع التاريخية المستجدة تكشف باستمرار عن إمكانات الإنسان وتتيح لنا تسميتها، من ثم اكتسبت مفردة “تعاون” معنى أن يضع المرء نفسه طواعية في خدمة سلطة ما، والأدهى أن يتم ذلك-وفقا لمنظور الواقعية السياسية ولواقع اتفاقيات السلام والتسوية والتطبيع-دون فائدة مرجوة، والأنكى أن يتم ذلك-باعتراف رسمي حكومي-ضدا على مصالح الأقطار العربية وقضاياها الوطنية وتطلعات شعوبها بشأن عيشها الكريم المنشود.
أليس من الواقع القول بسياق التطبيع وباللغط الإعلامي الدائر حوله أنه لا يرتفع قدرا عن ابتسامة الإشهار البلهاء والتطفل وقد رفع إلى مقام الفضيلة ؟!
أليس من الحصافة القول أن سياق التطبيع على خطورته فرع لأصل أن قضية فلسطين تبدأ من واقع الانقسام والتذرر الحاكم للمجال السياسي والاستراتيجي العربي، وتنتهي إلى ما يلزم وفقا لمنطق الأشياء بالمواجهة الإنسانية لأخطر ظاهرة استعمارية في التاريخ البشري ؟!
من هذا المنطلق نجزم القول بقضية فلسطين كمعيار ومقياس للشرعية للكثير من التفاعلات التي تعيد علينا تاريخا من الوعود الساذجة التي جاءت بالتطبيع، والحال أنها استمرار لإبادة حضارية تتجاوز مجرد التبادل والتنسيق إلى عملية تطبيع حضاري يقوم على غائيات معرفية تستبطن العقل الصهيوني الماثلة في محو الوجود الفلسطيني-العربي-الإسلامي-الإنساني وإحلال الوجود اليهودي بمبررات دينية للشعب المختار في مواجهة الأغيار.
إن قضية فلسطين تتصل أساسا بالتنصل من الدفاع عن قضية فلسطين والترويج لمشاريع استعمار اللاعبين الكبار مقابل دعم التنافس على النفوذ والسلطة والثروة، والتي ستصير في مهب ما تقدم عليه البشرية من تحولات دولية. وكما أن من يتخلى عن جزء من وطنه لا يحق له الدفاع عما تبقى منه، ففلسطين وطن الشعب العربي الفلسطيني، وهي جزء لا يتجزأ من الوطن العربي والإسلامي.
وتلافيا للتفكير في الأزمة بمنطق الأزمة، فالحل لا يكون إلا بالمنطق الحضاري الأوسع في استيعاب كل روافده السياسية والاستراتيجية وتوابعها، والذي يستدعي بعثا للمنظومة الحضارية ومؤسساتها الاجتماعية، ويضعها على محك الحرج الأخلاقي، بدءا بوحدة الاسرة وما أنيط بها من تحمل الوظائف الحضارية المعطلة والتي يراد لها مزيدا من التعطيل والمسخ الحضاري المطموس المعالم المجرد من كل هوية، وانتهاء بوحدة القيادة ومهامها في تفعيل أطروحة التجانس الحاكمة للمجال الثقافي العربي الإسلامي، وما يقتضيه ذلك من ضرورة فك التناقص الحاصل بين حقائق الاجتماع السياسي وحقائق الاجتماع الثقافي في الوطن العربي والإسلامي، وكذا تحديد الصفة العربية التي تتجاوز الإرادات القطرية لتكوين مجتمعي يتجاوز الشعب في كل دولة باعتباره شعبا واحدا لأمة واحدة، وكذا الصفة الإسلامية التي لا يمكن أن تكون أقل من رابطة إنسانية، تحمل الوفاق بين الشعوب والجماعات على الأمل الموعود بفجر تصان فيه حقوق الأمم المغلوبة والشعوب المطحونة، وعلى سنة الله في غد أفضل.
فإن يك صدر هذا اليوم ولى** فإن غدا لناظره قريب