عارفون ومنتحلون(خالد العسري)
“وهذا حال الكثير من الناس في الوقت، اتخذوا علم الرقائق والحقائق سلما لأمور: لاستهواء قلوب العامة، وأخذ أموال الظلمة، واحتقار المساكين، والتمكن من محرمات بينة وبدع ظاهرة” العارف محمد زروق*
إن سألنا عن موقف إمام المقاصد أبي إسحاق الشاطبي من التصوف، فسنجده موقفا متزنا يميز بين أنوار الأولياء وأكدار الأدعياء، ولا يعادل انتصاره لأئمة الطريق إلا بغضه للطارئين عليه بغير علم، حتى عبر عن أمنيته في أن يضع كتابا في طريقة القوم يُرسِّم فيها الحدود الفاصلة بين الرجال الصادقين والأدعياء الكاذبين، قال: “وفي غرضي إن فسح الله في المدة وأعانني بفضله ويسر لي الأسباب أن ألخص في طريقة القوم أنموذجا يستدل به على صحتها وجريانها على الطريقة المثلى، وأنه إنما داخلتها المفاسد وتطرقت إليها البدع من جهة قوم تأخرت أزمانهم عن عهد ذلك السلف الصالح، وادعوا الدخول فيها من غير سلوك شرعي ولا فهم لمقاصد أهلها، وتقولوا عليهم ما لم يقولوا به؛ حتى صارت في هذا الزمان الأخير كأنها شريعة أخرى غير ما أتى بها محمد “[1.
ونفى عن أئمة التصوف الابتداع في الدين، بل استشهد في كتابه بكلام أربعين شيخا من شيوخ الطريق؛ كلهم “مجمعون على تعظيم الشريعة، مقيمون على متابعة السنة، غير مخلين بشيء من آدابها، أبعد الناس عن البدع وأهلها. ولذلك لا نجد منهم من يُنسب إلى فرق من الفرق الضالة، ولا من يميل إلى خلاف السنة، وأكثر من ذكر منهم علماءُ وفقهاءُ ومحدِّثون وممن يؤخذ عنه الدين أصولا وفروعا؛ ومن لم يكن كذلك فلا بد له من أن يكون فقيها في دينه بمقدار كفايته. وهم كانوا أهل الحقائق والمواجد والأذواق والأحوال والأسرار التوحيدية”[2].
فأعظم بها من شهادة في حق أصحاب الحقائق والأذواق العلماء الفقهاء المحدثين المأمونين على الدين أصوله وفروعه.
وإن مما يجب الانتباه إليه أن الشَّكاة من أدعياء التصوف الداخلين عن غير صدق أو علم في سلكه ليس مختصا بجهابذة الفقهاء، بل هو أمر مشترك مع أعلام التصوف الذين آلمهم كما آلم غيرهم كثرة الأدعياء في هذا السلوك، وتوهيمهم الناس أن طريقهم هي الطريق. بل يعد ذلك من أكبر الأسباب التي دعت أعلام الطريق إلى تدوين علمهم بعد فترة من الزمن ليميز العقلاء الخبيث من الطيب، والسقيم من السليم.
قال الإمام القشيري وهو من أكابر القوم عن سبب تأليف رسالته: “وقد حصل الضعف في هذه الطريقة، لا بل اندرست، وقد مضى الشيوخ الذين كان بهم اهتداء، وقل الشباب الذين كان لهم بسيرهم وسنتهم اقتداء. وزال الورع وطوي بساطه، واشتد الطمع وقوي رباطه، وابتعدت عن القلوب حرمة الشريعة، فعدوا قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة، ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام.
كما استخفوا بأداء العبادات، واستهانوا بالصوم والصلاة، ومضوا في ميدان الغفلات، وركنوا إل اتباع الشهوات، وقلة المبالاة بتعاطي المحظورات، والارتفاق بما يأخذونه من السوقة والنساء وذوي السلطان.
(…) ولما أبى الوقت إلا استصعابا، وأكثر أهل العصر بهذه الديار إلا تماديا فيما اعتادوه، واغترارا بما ارتادوه، أشفقت على القلوب أن تحسب أن هذا الأمر على هذه الجملة بنى قواعده، وعلى هذا النحو سار سلفه. فوجهت هذه الرسالة إليكم أكرمكم الله، وذكرت فيها بعض سِير شيوخ هذه الطريقة في آدابهم وأخلاقهم ومعاملاتهم، وعقائدهم بقلوبهم، وما أشاروا إليه من مواجيدهم، وكيفية ترقيهم من بدايتهم إلى نهايتهم، لتكون لمريدي هذه الطريقة قوة، ومنكم لي بتصحيحها شهادة، ولي في نشر هذه الشكوى سلوة، ومن الله الكريم فضلا ومثوبة”[3].
وها هو ذا إمام آخر من أئمتهم يورد السبب ذاته الذي دعاه إلى التأليف في علم القوم، فقد اشتكى ابن إسحاق الكلاباذي من ضمور جوهر التصوف وبقاء صوره “إلى أن ذهب المعنى وبقي الاسم، وغابت الحقيقة وحصل الرسم، فصار التحقيق حلية، والتصديق زينة، وادعاه من لم يعرفه، وتحلى به من لم يصفه، وأنكره بفعله من أقر به بلسانه، وكتمه بصدقه من أظهره ببيانه، وأدخل فيه ما ليس فيه، فجعل حقه باطلا، وسمى عالمه جاهلا، وانفرد المتحقق فيه ضنا به، وسكت الواصف له غيرةً عليه، فنفرت القلوب منه، وانصرفت النفس عنه، فذهب العلم وأهله، والبيان وفعله، فصار الجُهالُ علماءَ، والعلماءُ أذلاءَ. فدعاني ذلك إلى أن رسمت في كتابي هذا وصف طريقتهم، وبيان نحلتهم وسيرتهم”[4].
* أبو العباس محمد زروق: قواعد التصوف. ص 9
[1] الإمام الشاطبي “كتاب الاعتصام” 1/60
[2] المرجع نفسه 1/67
[3] الإمام القشيري “الرسالة القشيرية” ص: 37 – 38
[4] ابن إسحاق الكلاباذي “التعرف لمذهب أهل التصوف” ص: 7