علم الدّلالة الجيوسياسيّ(دراسة حيويّة في العوامل المؤثّرة في توجيه الشّعوب وقيادتها(مهنّا بلال الرّشيد)_1_
مقدّمة:
تسعى العلوم والمعارف الإنسانيّة إلى فهم تاريخ البشريّة بعلومه وفنونه المتعدّدة، وتنزع إلى تعليل أحداث التّاريخ البارزة نهوضًا أو نكوصًا من خلال دراسة حيِّزها الحيويّ الّذي أنتجها؛ فللأحداث السّياسيّة عللُها وأسبابها وسياقاتها وظروفها وتطوّراتها وتحوّلاتها ونتائجها، ولعلّ علماء الدّلالة والسّاسة والقادة المتميّزين من أبرز الشّخصيّات العالميّة الّتي فهمت أدقّ أحداث التّاريخ السّياسيّ العالميّ وأكثرها تعقيدًا، أو تنبّأت بها قبل وقوعها، أو أثّرت فيها على أقلّ تقدير؛ لذلك استطاعت قيادة شعوبها إلى برّ الأمان؛ ومن هنا تأتي أهمّيّة علم الدّلالة الجيوسياسيّ بوصفه فرعًا حديثًا من فروع علم الدّلالة العامّ، ومدخلًا أساسيًّا متميّزًا من مداخل المعرفة الإنسانيّة، بما لديه من منهجيّة وأدوات تساعد المتلقّين من رجال السّياسة والقانون والقادة العسكريّين والباحثين في الشّؤون السّياسيّة والاستراتيجيّة على استقراء الحيِّز الحيويّ وفهمه واستيعابه من خلال صورة شموليّة ترسمها تلك الأدوات المنهجيّة المتكاملة.
ظهرت في الآونة الأخيرة مجموعة كبيرة من العلوم الإنسانيّة من خلال طريقة من اثنتين؛ أولاهما: طريقة الاستقلال عن علوم شموليّة، ثمّ نموّ الفرع الحديث وتكامله ليغدو علمًا مستقلًّا بذاته، وأُخراهما: تجمُّع فروع عدّة من علوم متشابهة أو متقاربة أو متباعدة أحيانًا ثمّ انتظامها وتجانهسا في دائرة منهجيّة واحدة؛ لتغدو علمًا مستقّلًا؛ له أدواته المنهجيّة ومفاتيحه الأسلوبيّة والتّطبيقيّة المتكاملة. ولعلّ الدّلاليّات Semantics واللّسانيّات Linguisticsوالسّيميائيّات Semioticsوسائر العلوم اللّغويّة من أكثر الميادين البحثيّة الّتي يتجلّى فيها تشكّل كثير من العلوم وتبلورها في الآونة الأخيرة بواحدة من الطّريقتين السّالفتين، فقد ظهر لدينا مؤخّرًا، على سبيل المثال لا الحصر، كثير من فروع اللّسانيّات الحديثة والدّلاليّات المعاصرة؛ كاللّسانيّات الحاسوبيّة Coputational Linguistics، الّتي تشكّلت من اجتماع البرمجتين: الحيويّة والإلكترويّة؛ الحيويّة Vitality Programming: كمبادئ برمجة الطّفل العصبيّة حين يكتسب لغته الأمّ، والإلكترونيّة Electronic Programming: كطريقة العلوم الحاسوبيّة في محاكاة البرمجة الذّهنيّة أو العصبيّة لدى الإنسان وصناعة لغة برمجيّة تطبيقيّة شبيهة بها، وعلم اللّغة القضائيّ أو اللّسانيّات الجنائيّةForensic linguistics الّتي ظهرت في مطلع القرن الحادي والعشرين بوصفها فرعًا حديثًا من الدّراسات الدّلاليّة، الّتي تهتم بالأدلّة اللّغويّة والقانونيّة والجنائيّة، و”تمتدّ عبر طيف من المجالات: بدءًا بمسألة الأصل في التّأليف ونسبة مكتوب إلى مؤلّفه [وصولًا] إلى الطرف الآخر من الطّيف وهو الجنايات الإجراميّة الّتي تستخدم اللّغة أداة فيها”[1].
- علم الدّلالة الجيوسياسيّ؛ مفهومه ومصادره:
تُنَظِّم منهجيّة علم الدّلالة الجيوسياسيّ مادّتَه المعرفيّة الّتي يستقيها من روافده المتعدّدة والمتزايدة يومًا بعد آخر؛ ولعلّ إنسان اللّغة_منتج علم الدّلالة الجيوسياسيّ ومستثمره_يحظى مع لغته بأهميّة حيويّة تجعل الإنسان ولغته في مركز هذا العلم؛ فباللّغة يتواصل البشر، وبها دوّنوا علومهم وفنونهم وأخبارهم؛ لذلك صارت اللّغة رديف الحضارة، الّذي يقرّر معها إمكانات الأمم بحسب ج. غ. هردر (J. G. Herder) (1744-1803.م)، “يُضاف إليهما الواقع الجغرافيّ بما يميله من مؤثّرات بيئيّة ومناخيّة”[2]، وقد كشفت سيرورة التّاريخ عن أهميّة دراسات هِردَر الجيوسياسيّة، الّتي راحت تصدق معها بعض نبوءاته، الّتي أدلى بها، ودوّنها في كتبه منذ 1802.م[3].
حين عرّف العلماء علم الدّلالة العامّ بيّنوا أنّ البحث عن معاني الأشياء ودلالاتها غاية هذا العلم الّذي عرّفوه بأنّه: “دراسة المعنى” أو “العلم الّذي يدرس المعنى” أو “ذلك الفرع الّذي يدرس الشّروط الواجب توافرها في الرّمز حتّى يكون قادرًا على حمل المعنى”[4]. وفي ضوء من تعريف علم الدّلالة العامّ يبدو لنا أنّ علم الدّلالة الجيوسياسيّ: علم سببيّ علمانيّ عقلانيّ شموليّ، يدرس معاني الأشياء في حيِّز الإنسان الحيويّ؛ قريبة منه أو بعيدة عنه، ظاهرة أو خفيّة؛ لأنّها أثّرت في ماضيه، وتؤثّر في حاضره ومستقبله؛ ليفهم الباحث الدّلاليّ دلالاتها، ويوظّفها على شكل مؤشّرات أو قوانين دلاليّة تساعد السّاسة على قيادة المجتمع البشريّ وتوجيهه نحو أهداف مقصودة. ويمكن تعريفه على نحو مختصر بأنّه: مجموعة من المبادئ والعلامات تساعد على فهم الواقع بالاستناد إلى تجربة جيوسياسيّة في فهم التّاريخ من أجل توجيهه بدءًا من حدود التّأثير في الحاضر إلى إمكانيّة التّنبّؤ بأحداث المستقبل والتّحكّم بمجرياتها[5].
- فقه اللّغة المقارن Comparative Philology:
حظيت الفيلولوجيا أو فقه اللّغة المقارن Comparative Philology بأهمّيّة بالغة لدى معظم دارسي العلوم والفنون الإنسانيّة، وشكّلت الفيلولوجيا النّقديّة رافدًا مهمًّا من روافد علم الدّلالة الحديث، الّذي تبلور قبل علم الدّلالة الجيوسياسيّ بقرن كامل تقريبًا[6]؛ فقد ازدهرت الدّراسات الفيلولوجيّة بعد وثيقة وليام جونز (William Jones) (1746-1794.م) حول الأصول واللّغات الهندو_أوروبّيّة، الّتي أعلن عنها في تاريخ 2 شباط/فبراير 1786.م[7]. ووجد أرنيست رينان (Renan) (1823-1892.م) أنّ الفيلولوجيّ الحقّ أقرب ما يكون من الباحث الدّلاليّ؛ لأنّه من الواجب على هذا الفيلولوجيّ أن يكون “فقيهًا لغويًّا ومؤرّخًا وعالم آثار وفنّانًا وفيلسوفًا في آن معًا، و[رأى] أنّ الفيلولوجيا ليست هدفًا بذاتها، لكنّ قيمتها تكمن في كونها شرطًا أساسيًّا لتاريخ الفكر الإنسانيّ”[8]. ولا يخفى على الباحث المدقّق في لغات البشر القديمة والحديثة أنّها تشكّل مادّة فقه اللّغة المقارن، وأنّ دراستها تحظى بأهمّيّة كبيرة في كلّ من علم الدّلالة العامّ وعلم الدّلالة الجيوسياسيّ؛ لأنّها تعبّر عن فكر الإنسان، وتدخل في تشكيل هويّته الشّخصيّة، وتكشف دراسة مدوّنات الشّعوب اللّغويّة معلومات مهمّة عن عاداتهم وتقاليدهم وهجراتهم وحروبهم، ويساعد تأويلها على فهم الشّعوب الّتي أنتجتها وتحليل دساتيرها وقوانينها ومعاهداتها واتّفاقيّاتها، ولعلّ فهم تاريخ الشّعوب القديمة مرتبط بتحليل أفكار المعاصرين وفهمهم للوصول إلى أكثر الطّرق السّياسيّة نجاعة في توجيههم وقيادتهم والتّنبّؤ بمستقبلهم في بعض الأحيان أو كثير منها.
رفد فقهُ اللّغة المقارن علمَ الدّلالة الجيوسياسيّ بمعلومات لغويّة وأدوات منهجيّة مهمّة، جعلت التّحقيق في نسبة المدوّنات اللّغويّة_دينيّة وأدبيّة وفنّيّة؛ قديمة وحديثة_إلى مؤلّفيها ميدانًا خصبًا من ميادين علم الدّلالة الجيوسياسيّ؛ لأنّ تلك المدوّنات تسهم في توجيه الشّعوب نحو ميول وسلوكيّات محدّدة، قدّ تؤدّي إلى اعتناق دين أو تبنّي مذهب سياسيّ أو فلسفيّ أو عقائديّ معيّن، وبعض تلك المدوَّنات ما زال يُدْرَس بلاغيًّا وأسلوبيًّا ودلاليًّا لمعرفة مدى تأثُّرها بسابقاتها وتأثيرها فيما جاء بعدها من أساطير وآداب؛ كشريعة حمورابي (1810_1750 ق.م)، الّتي يعدّها بعض الدّارسين صلة وصلٍ بين الشّرائع والآداب والأساطير القديمة والكتاب المقدّس، ولا سيّما أنّ الواعظ الألمانيّ ويتر H.B Witter 1711.م عبّر عن شكوكه حول أصل تأليفالإنجيل The Bible والكتاب المقدّس؛ نظرًا إلى اختلاف تسميات الرّبّ في الأسفار الخمسة الأولى Pentateuch من العهد القديم؛ لأنّ تعدّد التّسميات قد يعني أنّ أكثر من مؤلّف أسهم في كتابته، “وفي وقت لاحق من القرن الثّامن عشر نفسه توصّلت الطّبيبة الفرنسيّة جين أستروك Jean Astrucإلى استنتاج مماثل، في حين توصّل أستاذ اللّوثريّة Lutheran جي كي إيتشهورن J.G Eichhorn 1812.م في جامعة جينا لنفس الاستنتاج تقريبًا بعد مئة سنة من رحيل ويتر، [ثمّ] زاد اهتمام العلماء بمسائل أصل تأليف الإنجيل مع ظهور النّظريّة الدّارونيّة Darwinism والنّظريّات المتّصلة بها، وما زال مستمرًّا حتّى يومنا هذا”[9].