عنف “الخاص”(إدريس مقبول)_1_
في علم السلوك الحيواني، نجد فكرة “انسداد الخاص” فكرة متداولة ولها الكثير من الشواهد الحية التي تعود بنا إلى مرحلة ما قبل “التدبير” بما هو الفضيلة الأرسطية التي بموجبها تتحدد أخلاقية الفعل في تعميم الانتفاع، حيث تعمد الكائنات في الطبيعة المفتوحة لتحديد مناطقها وخوصصتها عبر أساليب طبيعية على رأسها الروائح من أجل تحذير الآخرين من دخولها، نوع من الاحتكار الطبيعي، وقد تخوض من أجلها معارك غاية في العنف بناء على منطق “القوة”، وهذا السلوك لا يرجع إلا لطبيعة “الطبيعة” والحفاظ على مناطق النفوذ والغذاء والتزاوج، وهي كلها متطلبات لا تحكمها سوى الطبيعة التي تنفي كل نزوع قيمي أو أخلاقي.
يفيدنا المفكر والروائي الفرنسي باسكال بروكنر Pascal Bruckner في أدبياته عن أعطاب الليبرالية التي تفشت في حياتنا الحضرية المعاصرة، أن فكرة “الخصخصة” privatizationتحولت إلى حركة كاسحة تبدأ من “خصخصة” الأمتار التي نقف فوقها، لتصل إلى “خصخصة” “البحار والجبال والغابات، بل وما المانع أيضا من خصخصة الفضاء” .
في واقع الحال تبدو دينامية “الخصخصة” أكثر الديناميات إيقاعا في حياتنا اليومية بفعل تنامي النزعات الفردية والأنانية التي تكتسح بكامل قوتها ميادين العيش المشترك، لتخلف وراءها آثارا رهيبة مما تبقى من أعمدة القواسم المشتركة التي باتت ترزح تحت مطرقة “الأنا” التي ليست سوى أسلوب بارع لممارسة الظهور الحاد في المشهد..
“التشوير” على اللوحات في فضاء المدينة، يتجاوز ما هو سيميولوجي ليشكل بكتابة “الخاص” ما يشبه “استفزازا” أو تلويثا كما هي عبارة الناقد الفرنسي فيليب دوفور Philippe Dufour بهذا الدال الاستحواذي، ومن وجهة نظر سوسيولسانية يعزز الاستعمال اللغوي اليومي لـ”الخاص “The private الذي يؤشر على “خصخصة الفضاء” الدعوى بأن الاستبعاد الاجتماعي في المدينة العربية قد يكون قدر الغالبية العظمى، فـ”النادي الخاص” هو ناد ذو انتقائية عالية في قبول العضوية فيه، و”المنتجع الخاص” هو منتجع لا يقدر على الإقامة فيه إلا قلة من الناس، و”الأحياء السكنية المغلقة “ذات البوابات” هي تلك التي لا يطمح أن يعيش فيها سوى قلة من الناس، و”المدرسة الخاصة” أو “المستشفى الخاص” لا يكون الانتفاع بخدماتهما متاحا إلا لنخبة من الناس، يصبح “الخاص” إذن من وجهة نظر لسانية دليلا تداوليا على التوزيع المكاني للثروة والفقر..يحمل الدليل اللساني “الفضاء الخاص” في المدينة العربية سمات تمييزية مناقضة لما يحمله “الفضاء الآخر” ذو الطابع العمومي حيث تتدنى “سمعة الفضاء” وتتدنى الخدمات والمرافق الاجتماعية والصحية، وترتفع مستويات الجريمة والعنف، فيتحول الفضاء المديني إلى فضاء يذكي الحقد ويؤسس لمجتمع الكراهية، “وحين تكون هذه السمات ذات طابع سلبي، فإنها تحد من الفرص المتاحة أمام السكان وتخفض نوعية حياتهم، وقد تخلق في نفوسهم مشاعر العجز والاغتراب”.
التمايز بين “الخاص” و”العام” يمنحنا مناسبة مواتية للحديث عن أفضل التأثيرات تخفيا لأشكال الهيمنة المستحدثة والمتصاعدة في نظامنا الاجتماعي والاقتصادي، في الوقت الذي تنبئنا فيه عن انهيار رهانات إنسانية بفعل ظهور تصنيفات جديدة للبشر بدأت تجد طريقها لسطح حياتنا العامة، وتضع حدا للبساطة والتلقائية التقليدية التي كانت نموذجا للإنسانية المطمورة اليوم.
مفهوم “الخاص” قد يلعب هنا دورا حيويا بسبب طبيعته الناعمة والهادئة والخفية في ما يسميه بيير بورديو Pierre Bourdieu بالعنف الرمزي، لأنه يتحول إلى أداة تواصلية تمارس الإقصاء والتمييز “المبطن”، تمارس “عنفا” لطيفا رمزيا من خلال اللسان أو العلامات اللسانية لتصل إلى إحداث جروح في هوية الإنسان من خلال عمليات التبخيس والتنقيص غير المباشر لمن يعيشون خارج “الخاص”..إنها عملية انزياح ثقافي واقتصادي وطبقي تتجسد في المقام الأول عمرانيا وتمتد إلى النفسي والإنساني بشراسة هادئة لتكرس ثقافة التميز الحضرية..لترسم داخل الفضاء الحضري سلسلة من علاقات السيطرة والامتيازات..