عنف “الخاص”(إدريس مقبول)_2_
في النمط الجديد من العمران الذي حملته الحياة الحضرية في المدينة العربية الحديثة، أصبحت “العزلة موضة” كما تقول الباحثة في السوسيولوجيا الحضرية جوينولا كابرون Guénola Capron ،بهواجس الأمن والتميز والانغلاق وحماية الخصوصيات باتت الأسر التي تختار أن تعيش في المساحات المسيجة أقل إحساسا بقيمة “الحياة الاجتماعية”Social life، وأقل إحساسا واستمتاعا بقيمة الفضاء العمومي الذي يجمع الثقافات والأذواق والميولات والتنوع الذي يميز المجتمعات الحية غير “المحنطة”.
في تصوير درامي لهذه المجمعات التي باتت تأوي “النخبة” (6أكتوبر والتجمع على سبيل المثال)، يرسم ثابت ياسر لوحة سوداء، يقول فيها: “مع استمرار التنكيل بالمدينة، استمر فرار أبناء تلك النخبة من المفزوعين من جحيم القاهرة إلى جنة التجمعات التي لا تملك مقومات العيش المستقل، بل يستخدمها عادة اللصوص الكبار للاختفاء من أعداء محتملين في المدينة ويستخدمها زبائنهم الخائفون ثكنات ليلية تصون كرامتهم لنصف اليوم، ويضطرون إلى العودة لأعمالهم صباحا في مدينة تتعرض للتنكيل”.
في اعتقادنا، يجد هذا التسلل المتنامي للتجمعات الخاصة في مدننا العربية واحدا من أفضل دعاماته في حالة التفكك الذي يعزز عودة مقولة “الطبقية” و”الفرز” من جديد لبنية مجتمعاتنا الممزقة، مما يمكن أن يقود مع تقدم الزمن إلى شكل حدي من تقابل مدينتين داخل مدينة واحدة.
لقد كان إنشاء هذه التجمعات الحديثة بما تضم من مجمعات مسورة، التعبير العمراني الواضح عن ثأر كامن بين فقراء وأغنياء المجتمع، جعل الأغنياء ينعزلون في أماكن خاصة بهم، وكان هذا هو نهاية الطريق لا بدايته.
وفي الواقع نادرا ما يحصل التعاون أو تقوم علاقة تعاون إنساني بين الفريقين، بل إن العلاقة المهيمنة _رسميا_ تتميز بتناقض ظاهر ومشاعر سلبية، لا تبشر بجو صحو في قابل الأيام بسبب تعاظم الفجوات والفراغات بين صنفي البشر من ساكني “المدينة”.
إذا كانت خلية النحل تعكس مساواة كبيرة من حيث هندستها العمرانية فإن المدينة العربية بأحيائها السكنية وتخطيطها “غير العادل” ما تزال قادرة على “ممارسة الإقصاء والاستبعاد” _بلغة إدوارد بلاكلي Edward James Blakely وماري سيندر Mary Gail Snyder _ لكثير ممن يمكن أن يقيموا في المجال الحضري فتدفعهم إلى جيوب الحرمان المكثف حيث أعراض مرض التمدن من الجريمة المتشابكة والأمراض الاجتماعية (التسول، الدعارة، تجارة الممنوعات، إلخ..) والمستويات المتدنية في الصحة والتعليم والتنمية المحلية، كل ذلك يدفع من خلال تمييز فضائي بين من يكون في “الداخل” ومن يكون “خارج” أسوار “الخلية الراقية” أو على الأصح الإقامات الراقية، فبالإضافة إلى تكلفة السكنى وهذا عامل حاسم، نجد استعمال البوابات والأسوار وهي علامات بصرية سيميائية “حادة” و”عنيفة” لا يقتصر فيها استبعاد هذه الأحياء على السكان الجدد غير المرغوب فيهم، بل تستبعد كذلك عابري السبيل الذين يمرون بها عرضا وسكان الأحياء القريبة منهم، والبوابات علامة مرئية من علامات الاستبعاد .