عنف الخاص(إدريس مقبول)_3_
في العديد من البلدان العربية، بات السكن في المجمعات الخاصة المغلقة “تقليعة حضرية”، لم تكن كذلك أول الأمر، ولعلها بدأت في بعض بلدان الخليج أول ظهورها متعلقة بالموظفين الأجانب الذين قدموا للعمل في أنشطة البترول، فكانت شركاتهم أو الجهات القائمة على استقدامهم توفر لهم فضاءات سكنية مغلقة يعيشون فيها حياتهم كما لو كانوا في بلدانهم من غير حاجة للاختلاط بالسكان المحليين والاحتكاك بعاداتهم المحافظة، فظل ينظر إلى هذه المجمعات على أنها مجتمعات مغلقة ومتحررة مغروسة في جسم مجتمعات محافظة، محمية بأبواب وأسوار وكاميرات مراقبة..لكنها مع مرور الوقت تحولت إلى ثقافة سكنية تعكس الرغبة في التميز وإظهار التبرجز..سوسيولوجيا جديدة صاعدة..
هذه السوسيولوجيا سيكون من مهماتها رصد حالة “السيولة” التي انتهت إليها مجتمعاتنا ومدننا، ولنتذكر جميعا الاستعارة التي اقتطعها أو لنقل رسمها الفيلسوف البولندي زيجموند بومان Zygmunt Bauman وسماها “الخوف السائل”، وهي من ضمن استعارات مترابطة، شكلت رؤيته النقدية للوضع الكارثي الاجتماعي والنفسي لعالمنا المعاصر(الحياة السائلة_الحب السائل_ الحداثة السائلة_ الأزمنة السائلة_ الثقافة السائلة_ المراقبة السائلة).
البوابات المغلقة والمحروسة في نمط العمران الجديد تجسيد لفكرة الخوف السائل، والتي أصبحت مضمونا للاستثمار الرأسمالي وقيمة سوقية في ظل تحرير مجال الأمن الذي أصبح في حد ذاته سوقا.
السيولة هي تعبير عن حالة انفلات في كل شيء، وتغير في كل شيء، إذ يصبح المبدأ الوحيد في الحياة هو التغير المنزلق المطاطي، ليست هناك ثوابت، سيولة في المشاعر والعلاقات والمعاني المقترنة بها. يحدثنا كتاب “الخوف السائل” كما تشير مقدمته الدكتورة هبة رؤوف عن أحد مظاهر التحول التي تجسد تهديدا للبشرية جمعاء يستحق أن يشارك الجميع في الحوار حوله، يتحدث الكتاب “عن تحولات تجريد الأفراد عبر أداوت الحداثة من كل شبكات التضامن ومهارات مواجهة المخاوف والمخاطر كافة، وبعد “تأميم الخوف” في ظل النظم الاشتراكية التي وعدت بتأميم خدمات التوظيف والصحة والتعليم والسلامة والاستقلال والسيادة، انتقلت الحداثة في طورها الجاري السائل إلى “خصخصة الخوف” ليصبح الأمان مهمة الفرد، وبدلا من رعاية الدولة ظهر السوق ليقدم خدمات الأمن والأبواب الآمنة والسيارات المصفحة والأسوار العالية وكاميرات المراقبة، ومن لا يملك تكلفة ذلك كان عليه أن يتعلم كيف يدافع عن نفسه بطرائق أقل تعقيدا..وربما أكثر وحشية”.
تحرير قيمة “الأمن” وإدخالها إلى مجال السوق خطير جدا على قيم التضامن المجتمعي من جهة وعلى مسؤولية الدولة التي ستفقد أكبر مقوم لوجودها، كما أنه يشكل تهديدا مباشرا للثقافات المجتمعية المتماسكة حين يلحقها داء الانبهار لتتخلى عن حماية الجماعة لصالح خدمات أمنية خاصة مدفوعة الأجر.. سيزداد الإنسان عزلة مع أوهام الأمن الخاص التي لن تجعله يفكر في الحاجة للجيران.
إن نتيجة هذا التحول العمراني التي تشكل في جوهرها تحولا نفسيا لا يخفي تأثرا واستلابا بـنمط “الآخر” في الوجود، أو بالأحرى شكلا من أشكال التبعية الرمزية، الوجود داخل شكل الآخر ونمط سكنه، ننتظر منه أن يمنحنا تماهيا بين وجودين، أو تنصلا من كينونة ودخولا في أخرى، وبينهما فارق الثقافة والتقاليد والتاريخ التي تصنع لنا خارطة طريق العيش الخاص، تلك التي تمنع هذا التماهي إلا في حدوده الشكلية الدنيا، وبالنتيجة، فإن علاقة التبعية تنحو لتصبح مادة للكيان مع ما تخلفه من إعاقة.