عن السلفية الجامية والسلطة(معتز الخطيب)
يحصر بعضهم السلفية الجامية/المدخلية في إطار أنها “حركة مخابراتية”، وأعتقد أن هذا التوصيف هو جزء من الصراع الذي يَسم العلاقة بين هذا التيار وخصومه الذين يصفهم بدوره بأنهم “خوارج”. وبمعزل عن هذه السجالات يمكن فهم هذا النزوع السلطوي للتيار الذي يعرف تارة بالجامية وأخرى بالمدخلية في إطار ثلاثة عوامل:
1- السياق الذي ظهر فيه.
2- مضمون خطابه وصلته بإشكالات الحاضر وإحالاته التراثية.
3- فاعليته والدور الذي يلعبه بوعي أو من دون وعي حين تخدم أفكاره دوائر أخرى خارج وعيه هو وأفقه.
فهذا التيار الذي لا يتمتع بأي قدرة تنظيمية لأنه يعادي الأحزاب والجماعات أصلاً، نشأ في سياق الجامعة والرمزان اللذان يُنسب إليهما هما أستاذان جامعيان، بمعنى أن اختزاله بأنه تيار مخابراتي نوع من الانتقاص وبعيدٌ عن محاولة الفهم والتحليل. ولاسيما أن العلاقة التي تحكم المشايخ والسلطة علاقة مركبة وتتخذ أشكالا متنوعة بحسب شكل السلطة وطبيعة الفاعلين فيها، تتراوح بين الانخداع بها أو الاستلاب لها أو الموالاة والحب إلى درجة الفناء أو التشبه بها نتيجة وحدة الحال التي تجمع بين سلطوية بعض المشايخ وسلطوية السلطة الاستبدادية.
وهذا ينقلنا إلى العامل الثاني، ذلك أن مفردات المسائل التي يتحدث عنها هذا التيار أو تَسِم خطابه هي: طاعة ولي الأمر، نبذ العمل السياسي، ذم الحزبية والجماعات الدينية، … وهي مسائل تنتمي إلى مواقف (تراثية) بالقدر نفسه الذي تتصل فيه بمسائل حديثة تنتمي إلى (الحقل السياسي) في ظل الدولة الوطنية. فبغض النظر عن تطبيقات هذا التيار لمفهوم الطاعة السياسية مثلاً؛ فإن طاعة الإمام هي مذهب أحمد بن حَنْبَل واشتُهر بها حتى إنه حينما شارف على الموت أمر ابنه عبد الله بشطب حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “يُهلِك أُمتي هذا الحيُّ من قُريش. قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: لو أن الناس اعتزلوهم”؛ فقد رجح عليه حديث “اسمعوا وأطيعوا واصبروا”. وكان يقول إن حديث الاعتزال “حديثٌ رديء، يَحتج به المعتزلة في ترك الجمعة”. فالفرائض الدينية عند أحمد كان لها أولوية على مسائل السياسة والحكم.
ولكن لا شك أن تطبيقات الجامية أو المدخلية لمبدأ الطاعة تختلف عن الوضع التاريخي لأحمد بن حَنْبَل؛ لأنها تأتي في ظل نشوء (حقل سياسي) حديث له تعقيداته، ولا يمكن قياس الوضع الحالي على وضع الدولة العباسية مثلاً؛ فالجامية يقومون باختيارات تأويلية مجتزأة تجعلهم يقومون بدور (وظيفي) بوعي أو من دون وعي، لأنهم واجهوا مشكلتين: الأولى هي مشكلة الطاعة السياسية التي يرونها (مسالة عقدية) وليست مسألة عملية فقهية يمكن أن تختلف فيها التقديرات والتصرفات، رغم أن من الفقهاء الحنابلة وغير الحنابلة مَن رأى الخروج على الحاكم الظالم. والمشكلة الثانية التي واجههوها أنهم يتحركون في سياق حديث لا يمكن إسقاط التاريخ عليه؛ لوجود اختلافات جذرية خصوصًا أن الطاعة والخروج يكتسيان مفاهيم ووسائل جديدة سلمية وهي صلب العمل (السياسي). يضاف إلى ذلك أن تركيبة السلطة والدولة وعلاقاتها بغيرها تختلف جذريًّا عن تركيبة الفقه التاريخي زمن أحمد بن حَنْبَل.
فالعامل الثالث هنا يحيل إلى كونهم جماعة وظيفية، وهذه الوظيفية ليست بالضرورة نتاج تواطؤ واع. ما يعني أن وجودهم واستمرارهم بوصفهم تيارًا مرتبطٌ بمدى الحاجة إليهم والحاجة إليهم تشتد في حالات مواجهة الخطاب المضاد وهو هنا خطاب الثورة والاحتجاج على ولي الأمر الذي يقرّب بينهم وبين السلطة أكثر ويقدم لهم مزيدًا من السلطوية في ظل تغييب وتهميش خصومهم. يبقى أن الإشكال اليوم هو أن ولي أمرهم يضعهم أمام خيارات قاسية تدخل في صلب الشأن الديني الذي ما كان أحمد بن حَنْبَل يسلّم بأنه من اختصاص ولي الأمر وإنما كان يرى أنه من اختصاص العلماء الذين هم أولياء الأمر في الشأن الديني ولهذا واجه المحنة في مسألة خلق القرآن، ولكن من المؤكد أن هذا التيار لن يتخذ أي موقف نقدي من هذه التحولات السياسية التي تتناول الشأن الديني نفسه لأنهم حولوا مفهوم الطاعة السياسية إلى مفهوم عقدي مُصمَت صار “هوية” لهم ومسائل الهوية ترتبط بالكينونة وليست محل نقاش، كما أن التساؤل عن حدود طاعة ولي الأمر وتجلياتها وما إذا كانت تقف عند خطوط حمر غير مطروح عندهم.
إننا أمام تحولات جذرية في السعودية التي قدمت منذ السبعينيات نموذج التدين الوهابي بوصفه حركة تبشيرية ضمن سياق الوفرة النفطية والرؤية الانفتاحية للملك فيصل، أما الروية الجديدة لولي العهد السعودي فتقوم على أن الوهابية عبء يريد التخلص من ثقله وأن الخطاب الديني خطاب “وظيفي”، فالتبشير بالوهابية تم – في تصوره – بناء على حاجة سياسية (وليست دينية) اقتضاها الصراع في الحرب الباردة. بهذا المعنى لا تحمل الرؤية السعودية الحالية أي أيديولوجيا دينية وإنما هي نزوع نحو “تحديث” شكلي، بمعنى أنه تحديث لا يحمل منظورًا فكريًّا وإنما يقوم على أساس اقتصادي بالأساس يتم تحقيق الترتيبات اللازمة لحصوله، وهو ما يفسر لماذا تتم حركة التغيير بشكل فج وسريع على المستوى الاجتماعي والديني (من دون أي تغيير سياسي ذي مضمون)، وهو ما أدى إلى هذه التغيرات التي شهدناها من اعتقال رموز خطاب الصحوة (الذي هو خصم الجامية) وهو ما وضع رموز السلفية العلمية في مأزق لأنها لا تملك حرية الكلام من جهة ووقعت في شر أعمالها من جهة أخرى؛ لأنها لم تحسب حساب أن يكون ولي الأمر الذي تجب طاعته بهذه الفجاجة واللامبالاة بمسلماتها الدينية.
فما يجري اليوم هو مرحلة ضمور للخطاب الديني عامة في سياق سَجن واعتقال وتخويف من جهة، وفي ظل تراجع دعاة الميديا من جهة أخرى. فالساحة باتت خالية وتم سحب أهم أسلحة الدعاة الجدد وهو (وسائل التواصل الاجتماعي)، فحتى الذي بقي خارج السجن بات يغرد فقط بتمجيد ولي العهد، أي أن مفهوم الجامية توسع وبات له حضور خارج التيار الجامي التقليدي فبتنا نرى الممارسة الجامية على ألسنة دعاة ليسوا منهم كعائض القرني وصالح الغامسي وغيرهما، وعلى ألسنة ليبراليين كتركي الحمد وعبد الله الغذامي الذي باتوا يغردون فقط بطاعة الحاكم والدفاع عنه وشتم خصومه.