المقالات

عوائق.. ومعوقون: (خالد العسري)

ولست أبالي في زماني بريبـة     إذا كنت عند الله غير مريب

إذا كان سري عند ربي منزها     فماضرني واش أتى بغريب

العارف أحمد الرفاعي*

أي صنف من العلماء اختص ببيان التربية وشروطها، والقلوب وأسقامها، والسلوك ومدارجه، والدين ومراتبه، والإحسان وكيفية التحقق به؟ أي صنف من الفقهاء اعتنى بتبيان معاني التوبة والمجاهدة والتقوى والورع والشكر والصبر والمراقبة … والتحقق بالتوحيد ومعرفة الله سبحانه وتعالى؟

إنك لا تجد مباحث هذه الأمور “التفصيلية بعد الكتاب والسنة إلا في كتب التصوف، فهم الذين فتشوا عن دقائق أحوال القلوب ومقاماتها وتكلموا فيها، وهم الذين تحدثوا عن كمالات الأعمال والأخلاق وولعوا بها، ومن تكلم بعد ذلك من غيرهم فقد استفاد منهم”[1].

لكن المرء ما إن يتحدث عن سمو التربية في مدرسة التصوف والصوفية حتى تكثر علامات الاستفهام مستنكرة أومستوضحة حول هذا الأمر، لاسيما وأن الاعتراضات تقوم من كل جانب:

إذ كيف يكون التصوف دعوة إلى صفاء الروح من كل أكدارها؛ والناس جميعا يشهدون مواسم بعض “الطرق الصوفية” التي تقيم احتفالاتها بعيد المولد النبوي الشريف بأشكال من البدع تشيب له الولدان، بل إن وسائل الإعلام تناقلت أنه في هذه السنة -1428هـ- أقيم في تجمع إحدى الزوايا بمدينة مكناس المغربية من المنكرات ما لا يقدر على إتيانه الأبالسة، بل وصل الأمر إلى تزويج الذكران بعضهم بعضا!

وكيف يكون التصوف سلوكا صاعدا إلى أعلى المقامات وزوايا صوفية فيها من تقديس البدع المتوارثة ما يصبح فيها الشرع مستنكرا، واجتماع أهلها على حطام الدنيا أكبر من أن يكون اجتماعا على حلق الذكر والتفكر في آلاء الله، وتجد من أتباعها من يخرق العوائد بأكل الزجاج، وشرب الماء الملتهب، وإدخال السكاكين في جسمه… وهو عن صلاته ساه، وتخلقه معدوم، وإنما هي فتوحات ولكنها شيطانية بتعبير شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

وكيف يكون التصوف إصلاحا لباطن الإنسان وهو يهدم ظاهره، وهل يقوم باطن ظهره مهدوم؟ فكيف بمن يدعون أنهم وصلوا إلى مقامات يسقط معها التكليف الشرعي الملزم للعوام، بل تجد اليوم من المنتسبين للطرق الصوفية من يأتون الفواحش ما ظهر منها وما بطن، حتى إذا اجتمعوا بشيخهم سألوه البركة..!

ولا يسع المرء إلا أن ينكر بقلبه ولسانه هذه الطوام، ولا يلزم أبناء الحركة الإسلامية طول جدال لإعلان البراءة من هذه الأوهام، فما نهضتهم من أول يوم إلا لإفشاء تعاليم الإسلام، كما هي مقررة في آي الكتاب وسنة خير الأنام عليه أفضل صلاة وأزكى سلام.

لكن السؤال يظل فاغرا فاه حول مدى قدرة تنظيم إسلامي يستفيد من المدرسة الصوفية من حفظ صفاء عقيدة أبنائه؛ ودروب هذه المدرسة توصل صاحبها -كما يدعي المعترض- إلى القول بكفريات الوحدة والاتحاد والفناء… كما أن نموذج هذا التنظيم يضعف ويقصر عن توحيد الأمة بسبب تبنيه التربية الصوفية التي توقظ فتنا وصراعات تاريخية، حتى يغدو الأمر تكرارا لمعارك الصوفية مع أعلام السلف في طبعات مزيدة وغير منقحة!

يقف اليوم أمام بوابة التربية شرطة العقيدة وعساكرها يتهمون ويصدون كل من يطرق بابها أو ينطق بمفردات من مفرداتها، وتجدهم يرفعون دعوى أنهم تلامذة ابن تيمية وأنهم يستكملون جهاده، وقد كان هذا الأمر حكرا على مجموعات تنتسب إلى السلفية الوهابية –والسلفية سلفيات- قبل أن يؤثر فقهها على أبناء من الحركة الإسلامية فغدوا قضاة وكان المعول أن يكونوا دعاة، بل كانت هجمات بعضهم أشد عنفا، وأقسى مرارة وهم يتهمون تنظيمات أخرى تختلف معهم في المسار السياسي بفساد العقيدة، وببطلان دعوتهم، يصدرونها أحكاما لا تنتظر استئنافا ولا نقضا ولا إبراما.

أتانا أن سهلا ذم جهـــلا            علوما ليس يعرفهن سهــــل

علوما لو دراها ما قلاهــا            ولكن الرضى بالجهل سهـــل

تجري اليوم معارك طاحنة تحت لواء ابن تيمية دون تبين موقفه حقا منها، بله وضع آرائه في سياقها، واجتهاده ضمن اجتهادات أخرى خالفته، حتى غدا ابن تيمية عنوانا مناقضا بالكلية لكل مفردات التصوف، وصار الأمر شائعا حتى لم يعد من موجب لتقليب النظر فيه، أو التشكيك في هذه البديهيات.

لكننا إذا رجعنا إلى كتب شيخ الإسلام وجدنا أن القوم قولوه ما لم يقل، وحملوا قوله ما لا يحتمل، ونشروا نصوصا معينة وأخفوا أخرى تبين أن الرجل لم يكن يعلنها حربا على المتصوفة ولكن على طرق بعينها خالفت مبدأهم وسلوكهم وغايتهم، وأن حربه التي كانت مخصوصة جعلوها عامة، وهذا أمر مستهجن ولا يرتضيه كل ضنين بدينه، إذ النقل عن الناس شرطه الأمانة.

فالصوفية عنده “ثلاثة أصناف: صوفية الحقائق، وصوفية الأرزاق، وصوفية الرسم”[2]، فأما صوفية الحقائق فهم من تحققوا بمعنى الصوفي “كقول بعضهم: [الصوفي] من صفا من الكدر، وامتلأ من الفكر، واستوى عنده الذهب والحجر. التصوف كتمان المعاني، وترك الدعاوي. وأشباه ذلك. وهم يسيرون بالصوفي إلى معنى الصديق، وأفضل الخلق بعد الأنبياء الصديقون. كما قال الله تعالى:”وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا” النساء: ٦٩، ولهذا ليس عندهم بعد الأنبياء أفضل من الصوفي؛ لكن هو في الحقيقة نوع من الصديقين، فهو الصديق الذي اختص بالزهد والعبادة على الوجه الذي اجتهدوا فيه”[3].

وأما “صوفية الأرزاق فهم الذين وقفت عليهم الوقوف كالخوانك، فلا يشترط في هؤلاء أن يكونوا من أهل الحقائق”، “وأما صوفية الرسم فهم المقتصرون على النسبة، فهمهم في اللباس والآداب الوضعية ونحو ذلك فهؤلاء في الصوفية بمنزلة الذي يقتصر على زي أهل العلم وأهل الجهاد ونوع ما من أقوالهم وأعمالهم بحيث يظن الجاهل حقيقة أمره أنه منهم وليس منهم”[4].

كما أن ابن تيمية يثني بشكل كبير على عدة رجال من الأكابر عند الصوفية، ويدفع عنهم تهمة الخروج عن الشرع، بل يوافقهم أن علمهم مقيد بالكتاب والسنة، “وهذا كثير في كلام المشايخ كقول الشيخ أبى سليمان الدارانى: إنه ليقع في قلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين الكتاب والسنة.

وقال أبو القاسم الجنيد رحمة الله عليه: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم في علمنا، أو قال: لا يقتدى به.

وقال أبو عثمان النيسابورى: من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة، لأن الله تعالى يقول في كلامه القديم:[وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا].

وقال أبو عمرو بن نجيد: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل”[5].

ويقف شارحا بشكل مطول لفقرات من كتاب “فتوح الغيب”[6] للشيخ عبد القادر الجيلاني، الذي ما إن يذكره حتى يتبع اسمه ب”قدس الله روحه”.


* أحمد الرفاعي: البرهان المؤيد. ص 19

[1] سعيد حوى.”مذكرات في منازل الصديقين والربانيين”. ص: 11

[2] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية. 11/19

[3] المرجع نفسه. 11/16-17

[4] المرجع نفسه. 11/19 ـ 20

[5] فتاوى ابن تيمية. 11/210

[6] الفتاوى. ينظر المجلد 10/  455 فما بعدها

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق