فقه الثغور المتعددة(محمد المختار الشنقيطي)_2_
ثُوارٌ للاستخدام العابر
وإذا كان المجاهدون الأفغان رأوا الحرب ضد السوفييت حربا وجودية -وهي كذلك يقينًا-واعتبروا النصر فيها مسألة وجود أو عدم بالنسبة للشعب الأفغاني، فإنها بالنسبة للأميركان والتابعين لهم بإحسان كانت مجرد تكتيك انتهازي، واستخدام عابر للمجاهدين الأفغان، في سبيل استنزاف الروس. أما الدم الأفغاني المِدرار الذي سال فيها فلم يكن -في نظر أولئك الداعمين- يستحق ثمنا من الحرية والقيم الإسلامية والاستقرار واستقلال القرار، وهي الغايات التي قاتل الأفغان ببسالة في سبيل تحقيقها.
وإذا كان الثوار السوريون رأوا الحرب مع نظام بشار الأسد حربا وجودية -وهي كذلك من دون ريب- فإن الأميركان وجدوها مجرد فرصة انتهازية، واستخدام عابر للثوار السوريين، من أجل تهشيم إحدى الدول العربية المحاذية لإسرائيل، واستئصال إرهاب “تنظيم الدولة” دون بذل للدم الأميركي، ودون السماح للشعب السوري بتحقيق ما يصبو إليه من تحقيق الحرية والكرامة الإنسانية في بلده، وكسْر قيد النظام الدموي الطائفي الذي حكمه أكثر من نصف قرن.
فالحرية السياسية واستقلال القرار الاستراتيجي في المشرق العربي تغيير للبيئة الاستراتيجية المحيطة بالدولة اليهودية، وذلك خط أحمر جِدِّيٌّ لن يسمح الأميركيون بتجاوزه إلا راغمين، بخلاف الخطوط الوهمية الأخرى التي تحدث عنها باراك أوباما لتخدير الأسماع العربية، مثل استخدام بشار الأسد السلاح الكيماوي ضد الشعب السوري.
وقد نشر الباحثان “سلفيك” و”رولاندسن”، من “معهد بحوث السلام” و”المعهد النرويجي للشؤون الخارجية” في أوسلو، بحثا أكاديميا مشتركا عام 2020 عن الدعم العسكري الأميركي للثوار السوريين، بعنوان: “متمرِّدون للاستعمال العابر” Disposable Rebels يصلح دراسة نموذجية للفجوة الشاسعة بين مطامع الداعم ومطامح المدعوم. كما أن عنوان البحث يَصْدُق على حالات دول وقوى سياسية عديدة في تاريخنا المعاصر، بحكم كوننا أمة رضيتْ بدور المنفعل، وتخلَّتْ عن دور الفاعل، مدة مديدة. فكم فينا من حكام وقوى سياسية، وحتى دول، للاستخدام العابر!
ومن الأفكار المهمة التي خلص إليها البحث أن الدعم الأميركي للثوار السوريين مثال على اختلاف الأهداف بين الداعم والمدعوم، وهو أمر وارد وطبيعي في الأحلاف السياسية والعسكرية، كما أنه مثال على الحرب بالنيابة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية الأميركية، وهو أمر ليس جديدا في الاستراتيجية الأميركية. وأن ذلك الدعم كان محكوما بغايات أميركية خالصة، لا علاقة لها بانتصار الثورة السورية، ومن هذه الغايات:
- التحكم في كل الأطراف المتحاربة، مع الحيلولة دون انتصار أي طرف منها على الآخر.
- التحكم في مستوى دعم الداعمين الإقليميين، وفي سلوك المدعومين داخل سوريا.
- الاقتصاد في الدماء والأموال الأميركية خلال تصفية تنظيم الدولية في سوريا والعراق.
- تجنب الظهور الواضح للقوات الأميركية في بلاد لا يرغب أهلها في رؤيتها داخل بلادهم.
- منع الثوار من “التسوق المفتوح” للسلاح، لأن ذلك يمنحهم استقلال القرار الاستراتيجي.
- تفريق صف الثوار بتهميش القيادة السياسية للثورة والتعامل المباشر مع الفصائل المقاتلة.
- إبقاء الدعم أقل مما يحتاجه الثوار للانتصار، وربطه بمستوى “الولاء والطاعة” للداعم.
- التحكم في مدى العمليات العسكرية التي يشنها الثوار ضد النظام، وفي مسارها ونتائجها.
- وضع سقف لاستخدام الدعم العسكري، بما في ذلك التحكم في تحديد الأهداف العسكرية.
- إبقاء الحرب مفتوحة لمدة مديدة، دون غالب ولا مغلوب، تدميرا لجميع الأطراف المتحاربة.
وقد قسَّم الباحثان أنماط الدعم العسكري للحركات الثورية إلى قسمين: دعم بهدف انتصار المدعوم، ودعم بهدف بقائه فقط، لأن ما يسعى إليه الداعم هنا هو تهشيم الدول، وتمزيق المجتمعات، من خلال استنزاف كل الأطراف. فكتبا عن ذلك: “أحيانا تكون غاية الداعم للمتمردين هي مجرد تمكُّنهم من إبقاء السلطة القائمة في حرب دائمة، وبقائهم هم على قيد الحياة فقط.” وهذا ما فعله الأميركان والتابعون لهم بإحسان مع الثورة السورية.
ولا أحد يستطيع التنبؤ بسلوك إيران السياسي مستقبلا، أو بعلاقاتها بالمقاومة الفلسطينية، بعد أن تنتج سلاح نوويا رادعا، يغنيها عن طوق النيران الذي تطوِّق به الدولة اليهودية، وتجعل منه ذريعة لاستباحة عدة بلدان عربية. فتحقُّق غايات الداعم قبل تحقق غايات المدعوم كثيرا ما يترتب عليه تغير في العلاقات بينهما في غير مصلحة المدعوم.
ولست أنكر أن إنتاج إيران للسلاح النووي سيخدم القضية الفلسطينية بآثاره الجانبية، وأهمها الأثر النفسي على المجتمع الصهيوني الملفَّق من أشتات بشرية قد تتفكك وتتبعثر في أرجاء العالم في رعب السباق النووي، بعد أن ينكسر الاحتكار الصهيوني لهذا السلاح في المنطقة. وإنما قصدتُ أن المقاومة الفلسطينية قد تحتاج التخطيط من الآن لإكمال الطريق مع رفقة جديدة بعد اكتمال المشروع النووي الإيراني، الذي سيترتب عليه مراجعة إيران لعقيدتها الاستراتيجية، وتغيرٌ جوهري في رؤيتها لنفسها، وفي رؤية العالَم لها، وفي علاقة القوى الدولية بها، بما في ذلك أميركا.
على أن كل ما ذكرناه لا يسوِّغ لوم المجاهدين الأفغان، ولا الثوار السوريين، ولا المقاومين الفلسطينيين، على قبول أي منهم دعم الداعمين. فليس لدى الغريق مناصٌ من التشبث بأي قشة تلامسها يده، وليس أمام من استُبيحت أرواحهم، وأُخرجوا من ديارهم بغير حق، سوى قبول الدعم المالي والسياسي والعسكري من الخارج.
كل ما في الأمر أن إدارة العلاقات مع الداعمين تستلزم وعيا بمقاصدهم الخفية، وغاياتهم الاستراتيجية، وعدم التعاطي معهم بحسن نية وصفاء طوية، والسعي إلى سحبهم إلى ساحاتك وغايتك، والحذر من سحبهم لك إلى ساحاتهم وغاياتهم، والاستعداد لأي تغير في العلاقة، خصوصا إذا حقق الداعم أهدافه أن تحقق أهدافك.
والأهم من ذلك بالنسبة لموضوعنا هو أن إدارة الدعم في ظروف الثغور المتعددة تستلزم تجردا وموضوعية، وإنصافا من كل أهل ثغر لأهالي الثغور الأخرى، إذ ليس من الإنصاف أن أترخَّص في الدعم السياسي والعسكري من عدوِّ أخي، ثم ألوم أخي إذا قبل الدعم من عدوِّي. ومن المهم أيضا التركيز على الفاعلية المحلية أكثر من المناصرة العامة. فظهور بؤر متعددة من الانتصارات، وانفتاح ثغرات في الطريق المسدود هنا وهناك، يخدم الأمة اليوم، ويحيي فيها الآمال، أكثر مما يخدمها التناصر العاطفي واللفظي من بعيد، دون أثر فاعل على الأرض.