فقه الثغور المتعددة(محمد المختار الشنقيطي)_3_
عبرة الثورة الجزائرية:
ويقدِّم تاريخ الثورة الجزائرية المجيدة (1954-1962) عبرة ثمينة للثورات وحركات التحرر في هذا المضمار. فحينما تفجَّرت الثورة الجزائرية- وهي أعظم تجربة جهادية في تاريخنا المعاصر- كان من أول التحركات الدبلوماسية للثوار الجزائريين زيارة تاريخية لفيتنام بدعوة من زعيمها الشيوعي “هوشي منه”، وللصين بدعوة من زعيمها الشيوعي “ماو تسي تونغ”. وكان من أول الدول اعترافا بحكومة الثورة الجزائرية في المنفى ثلاث دول شيوعية اعترفت بها خلال أسبوع واحد، وهي الصين، وكوريا الشمالية، وفيتنام الشمالية (قبل توحيد فيتنام). كما كان الزعيم الشيوعي اليوغوسلافي جوزيف تيتو من أهم الداعمين للثورة الجزائرية عسكريا وسياسيا.
وقد كان الثوار الجزائريون على قدر كبير من الذكاء السياقي والحاسة الاستراتيجية، فقد فجَّروا ثورتهم في أوج انشطار الحرب الباردة بين الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي، مدركين أنهم سيكسبون الكثير من ذلك الانشطار في النظام الدولي، لأن كل من ثار على الهيمنة الغربية حينها وجد الدعم السخيَّ من المعسكر الشيوعي نكاية في الغرب. كما كان الثوار الجزائريون على وعي بمراتب المسؤوليات، وبأن مسؤوليتهم الشرعية والإنسانية الأولى هي تحرير الشعب الجزائري من نير الاستعمار الفرنسي.
ولم يكن خفيًّا على الثوار الجزائريين -وجلُّهم إسلاميون وقوميون محافظون ووطنيون متديِّنون- أن قادة الشيوعية العالمية الذين يدعمونهم كانوا من عتاة الإلحاد في العالم، وأنهم كانوا يضطهدون حينها شعوبا مسلمة عريقة في الإسلام، في غرب الصين وآسيا الوسطى والبلقان. لكن الثائر الجزائري لم يكن في وْسْعه يومها أن يفعل شيئا لإنقاذ المسلمين الطاجيك أو الأوزبك أو البوسنيين أو الإيغور من الاضطهاد الشيوعي، رغم تعاطفه القلبي معهم.
ولم يكن من الحكمة أن يفرِّط في واجبه المتعيِّن -وهو تحرير شعبه من الاحتلال الفرنسي- بمزايدات كلامية ضد قادة الشيوعية العالمية وعدائهم للإسلام، وهي مزايدات كانت ستضر قضيته دون أن تعين إخوانه في الدين بشيء. وهذا درس مهم في فقه الثغور المتعددة ومساحاته الرمادية، وهو أن الثائر لا يحق له التفريط في واجبه المتعيِّن، بحجَّة التعاضد مع إخوة في الدين لا يملك من أمرهم شيئا، وأن فاعليته على ثغره المخصوص أجدى له ولهم في نهاية المطاف.
ورغم استفادتهم العظيمة من الانشطار الدولي في الحرب الباردة، ودعم المعسكر الشيوعي لهم سياسيا وعسكريا، حرص ثوار الجزائر على عدم التماهي مع الكتلة الشيوعية، لدوافع مبدئية ومصلحية. وقد عبَّر عن ذلك رئيس حكومة الثورة الجزائرية في المنفى فرحات عباس بالقول: “إن كسب تعاطف الشعوب الشيوعية مع قضيتنا لا ينبغي أن يتحول إلى ارتباط بالمعسكر الشيوعي.” ومثله قول وزير الخارجية في حكومة الثورة كريم بلقاسم: “نوايا الكتلة السوفيتية حسنة نحونا. وبالتالي يمكن أن نستفيد من هذا الاستعداد، دون أي التزام، أو رهن للمستقبل من جانبنا.”
ولم يكن الأمر سهلا حينها، فقد استطاعت بعض العناصر الشيوعية اختراق الثورة، وكادت تَحْرفها عن مسارها الإسلامي، كما ظهر فاقعا في مؤتمر طرابلس عام 1959. لكن وعي القيادة الثورية الجزائرية، والمناعة الإسلامية التي زرعها علماء الإصلاح الإسلامي في قلوب الشعب الجزائري، لم يتركا للقوى الشيوعية الداعمة فرصة لاختراق الثورة.
وإذا كان ما تمناه قادة الشيوعية الدولية من السوفييت والصينيين هو إزاحة النفوذ الغربي من الجزائر، وإحلال الحكم الشيوعي محله، فإن الثوار الجزائريين استفادوا من الشِّق الأول، وقاوموا الثاني. فبنوا مساحة مشتركة مع المعسكر الشيوعي ضمن دائرة محدَّدة، هي مناهضة النفوذ الغربي، ثم قاوموا أي اختراق شيوعي لصفوفهم، أو تحريفٍ شيوعيٍّ لمسار ثورتهم، التي نحتْ منحىً إسلاميا منذ شرارتها الأولى، ونصَّ بيانها الأول الصادر فجر الفاتح من نوفمبر 1954 على “إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية.”
تلكم هي معالم الممارسة السياسة الرصينة: ذكاء سياقي عميق، وحاسة استراتيجية مُرهفة، ووعي بالبيئة المحيطة، وترتيب للواجبات والمسؤوليات طبقا لمعادلات الزمان والمكان والإمكان، مع حرص على كل ما ينفع القضية، وبناء للمساحات المشتركة مع كل من يفيدها، وقطْع جزء من الطريق معه، بغضِّ النظر عن مقاصده وغاياته النهائية. أما السياسة الساذجة الحالمة فيظن أصحابها أنهم يتحركون في كون خالٍ إلا منهم، فلا يسعون لبناء المساحات المشتركة.
وإن دفعتهم الضرورات العملية إلى الاستعانة بطرف غير مرغوب فيه ارتبكوا وجادلوا، وتمحَّلوا في تبرئة ذواتهم “الطاهرة” وأفعالهم “المطهَّرة”، دون داع لكل ذلك التكلف. ثم هم يبالغون في التهجُّم على من يترخَّصون مثل ترخُّصهم في استلام الدعم الخارجي من أطراف تمارس الظلم والعدوان في ثغر آخر من ثغور الأمة الكثيرة الدامية، فيضعفون موقف إخوانهم من أهل الثغور الأخرى بالمزايدات التي لا طائل من ورائها.
وقد يكون ممكنا في الماضي لقاء قادة المجاهدين الأفغان بالرئيس الأميركي ريغان في البيت الأبيض، ثم الادِّعاء في الإعلام أنهم زاروه لدعوته إلى الإسلام، وإنكار أي تلقِّ لأي دعم أميركي، صونا للصورة أمام البسطاء من عامة الناس. لكن الأوْلى في عصر ثورة الاتصال الحالية هو التحرر من الطفولة الثورية، وممارسة السياسة العملية على أصولها: بذكاء عملي، وتواضع أخلاقي، ودون رياء أو مراء. فحتى الاستعانة بعدوّ على عدوّ أمر طبيعي في الممارسة السياسية، وجزء أصيل من مساحاتها الرمادية. وكما قال المفكر الاستراتيجي من مؤسسة (راند) الأميركية روبرت ووهلستتر: “ليست أهدافنا متناقضة بالضرورة مع أهداف عدوّنا”.
فلا فرق بين غرفتي (إسلام آباد) و(بيشاور) لدعم المجاهدين الأفغان قديما، وغرفتي (المُوكْ) و(الموم) لدعم الثوار السوريين حديثا، فكلها غرف استراتيجية تدير من خلالها القوى الإقليمية حروبا نيابة عن القوى الدولية. ولا فرق بين صواريخ “ستينغر” المضادة للطائرات التي زودت بها أميركا المجاهدين الأفغان في الثمانينيات، وصواريخ “التاو” المضادة للدروع التي زودت أميركا بها الثوار السوريين منذ بضع سنين. فكلها أسلحة أميركية لا تُمنح لوجه الله، ولا تباع دون رخصة أميركية. ولا يُعاب المجاهدون الأفغان قديما، ولا الثوار السوريون حديثا، في قبولها، أو قبول غيرها من أوجه الدعم، بغضِّ النظر عن نيات الداعمين.