فقه الثغور المتعددة(محمد المختار الشنقيطي)_4_
كتيبة الإسلام:
وربما يجادل البعض بأن المبادئ لا تتجزأ، فلا يسوغ الاستعانة في ثغر من الثغور بمن يحارب الأمة في ثغر آخر. وبأن وحدة الأمة تستلزم وحدة جبهات المواجهة. والحقيقة أن المبادئ لا تتجزأ على المستوى التجريدي فقط. أما على المستوى التطبيقي فالمبادئ تتجزأ، وتتزاحم، فيتعين فيها التقديم والتأخير، ومراعاة السياقات في التطبيق. وأعظم تحدٍّ للممارس السياسي هو التعامل مع المبادئ المتزاحمة، والمصالح المتضاربة. ولو كانت الأمور بالأبيض والأسود، لكانت الممارسة السياسية بسيطة كشربة ماء، لا معقدة كتركيب الكيمياء.
ونحن نتفق مع هؤلاء المجادلين في مبدأ وحدة الأمة، أما وحدة الجبهات فهي لا تصلح إلا في عالم مثالي: الأمة فيه متحدة سياسيا، وذمَّتها واحدة قانونيا. فهذه الحالة المثالية هي التي ينطبق عليها الحديث النبوي: “المسلمون تكافأ دماؤهم، ويسْعَى بذمَّتهم أدناهم، وهم يدٌ على من سواهم.” (مسند أحمد). ويمكن في سياق مثالي كهذا رفع السقف الأخلاقي عاليا، ومطالبة أهل كل ثغر أن يتعاملوا مع الثغور الأخرى على قدم المساواة، باعتبار كل الثغور جبهة واحدة، وأن يجعلوا ذلك قاعدة للولاء والبراء، ومعيارا ضابطا للعلاقات السياسية.
أما في عالم التمزُّق والتفرُّق الذي نعيشه اليوم فرحم الله من عرف قدره، وركزَّ على حسن الأداء في ثغره. وكما يذكّرنا الشيخ راشد الغنوشي -فرَّج الله بالحرية والعزِّ كرْبَه- فإن الأمة الإسلامية لم تسقط جملةً واحدة في يوم واحد، بل سقطت لَبِنةً لبنةً، “وكذلك إعادة البناء”. فلا حاجة لمزايدات بعض أهل الثغور على بعض اليوم، بل الأوْلى أن يمارس أهل كل ثغر سياستهم العملية بفعالية في ثغرهم وساحتهم، وأن يفرحوا بما يحققه إخوتهم الأحرار في أي ثغر آخر، حتى وإن كان ذلك عبر الاستعانة بقوى إقليمية ودولية تعاني من حيفها ثغور أخرى.
إن تاريخنا مشحون بأمراء من المسلمين ظلموا المسلمين واستباحوا دماءهم في صراعات سياسية داخلية، ثم جاهدوا الكافرين الصائلين على الأمة من خارجها بجِدٍّ وشجاعة. وقد استنكر علماء الأمة على أولئك الأمراء ظلمهم، لكنهم لم يترددوا في الوقوف معهم في جهادهم ضد العدو الصائل على الأمة من خارجها، صونا لذات الأمة ووجودها، ومستقبل الإسلام ورسالته، لا محبةً في أولئك الظلمة أو اقتناعا بشرعيتهم.
ولو كان علماء الإسلام نظروا لهذه التناقضات النظرة الطُّهورية الحِجاجية الشائعة اليوم لعطّلوا الجهاد ضد العدو الصائل على الأمة، بحُجَّة أن من يقتل المسلمين أو يظلمهم لا يُقبَل منه دفعٌ للعدو الصائل عنهم، ولا يجوز تأييده في جهاده وذبِّه عن حياضهم. لكن علماء الإسلام أدركوا أن الأمر محكوم بالمصالح النسبية، وأن الله تعالى “يؤيِّد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم،” كما ورد في النصوص النبوية، فضلا عن وفرة أعداد الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا من البشر.
ولذلك أوضح علماء الإسلام أن المسلم يمكن أن يُحب أقواما من وجهٍ، ويبغضهم من وجهٍ آخر، وأن يواليهم من وجهٍ، ويعاديهم من وجهٍ آخر. وما أكثر ما تكررت هذه الفكرة في كتابات ابن تيمية رحمه الله، وقد عاش في عصر معقَّد مثل عصرنا، استبيحت فيه بيضة الأمة، وقلَّ فيه النصير والظهير، ولم تخل فيه ساحة إسلامية من شوائب.
فكان ابن تيمية حريصا على نصرة “كتيبة الإسلام” في عصره، وهي دولة المماليك الفتيَّة في مصر والشام، وعنها كتب: “هذه العصابة التي بالشام ومصر في هذا الوقت هم كتيبة الإسلام، وعزُّهم عزُّ الإسلام، وذلُّهم ذلُّ الإسلام. فلو استولى عليهم التتار لم يبق للإسلام عزٌّ، ولا كلمة عالية، ولا طائفة ظاهرة عالية، يخافها أهل الأرض، تقاتل عنه” (ابن تيمية، الفتاوى).
ففي تلك اللحظة التي تفككت فيها عرى الأمة، وتمزقت أوصالها، واجتاحها العدو الصليبي من الغرب، والعدو المغولي من الشرق، كان ابن تيمية مدركا لواجبه المتعين، وهو دعم “كتيبة الإسلام” في زمانه ومكانه. وهو لم يكن يجهل تعدد الثغور، وكثرة الجراح في جسد الأمة، لكنه وضع يده على قلب الصراع. وقلب الصراع الذي تلتقي عنده الخيوط يومها، وفيه تتكثَّف التحديات والمخاطر، كان الهجمة المغولية التي اجتاحت العراق، والشام، وأوشكت أن تصل مصر عبر بوابة فلسطين، لولا أن كسرها جيش المماليك في معركة عين جالوت قرب بيسان! فبوابة فلسطين هي التي سعى المغول عبرها لسحق آخر قوة إسلامية فتيَّة، وهي دولة المماليك في مصر، وبوابة غزة هي التي استباح منها البريطانيون -بقيادة الجنرال ألَنْبي- مدينة القدس قادمين من مصر عام 1917، ففتحوا الجرح الذي لا يزال ينزف حتى اليوم.
فالمجاهدون في غزة اليوم يصدق عليهم قول ابن تيمية عن أهل مصر والشام أيام الهجمة المغولية: “عزُّهم عزُّ الإسلام، وذلُّهم ذلُّ الإسلام”. كما يصدُق على الملحمة التي يخوضها أهل غزة اليوم أنها حرب فاصلة في رسم مستقبل هذه الأمة لجيل قادم: انبعاثا وعزة، أو انكسارا وذلة. فما أحرانا بالاقتداء بذلك العالِم المجاهد ذي الروح العملية، ونصرة “كتيبة الإسلام” في غزة، لأن نصرتها تقوِّي جهاز مناعة الأمة بأسرها، وبانكسارها -لا قدر الله- تستباح الأمة بأسرها. وما أجدر أهل الثغور كلها أن يفهموا هذه المعادلة الكثيفة التي تمثلها ملحمة “طوفان الأقصى” اليوم.