فقه الثغور المتعددة(محمد المختار الشنقيطي)_5_
لا تحرِّجْ على أخيك:
وحاصل فقه الثغور المتعددة الذي نريد إبرازه هنا هو أنه ليس للفلسطيني أن يحرِّج على السوري في تلقي الدعم العسكري الأميركي، أو في شكر الأميركيين عليه، كما تقتضيه بدَائهُ العلاقات السياسية والتعامل الدبلوماسي. وبالمثل ليس للسوري -أو العراقي- أن يحرِّج على الفلسطيني في تلقِّي الدعم العسكري الإيراني أو شكر إيران على ذلك، كما تقتضيه بدَائهُ العلاقات السياسية والتعامل الدبلوماسي أيضا. وإنما تقتضي الحكمة السياسية أن يعتبر كل منهم قوة الآخر قوة له، وأن يحرص كل منهم على ما ينفعه.
فليس من الإنصاف في شيء اليوم التشهير بالمقاومين الفلسطينيين من حركة (حماس) وغيرها لقبولهم الدعم المالي والعسكري من إيران، بغضِّ النظر عن نيات إيران واستراتيجيتها، ودورها السيء في ثغور دامية أخرى، مثل الثغر السوري. فلا تطلبْ من أخيك البراءة من عدوك، وأنت تستمد الدعم من عدوِّه، بل تفهَّمْ ظروفه وتوقعْ منه أن يتفهم ظروفك. ورباط القلوب الدائم أقوى من تباين المصالح السياسية الظرفية، إذا صحَّت النيات، وصدقت السَّرائر.
ويبقى دائما من حق الجميع على الجميع أن لا يعين أحدهم ظالما على أخيه، وأن لا يسوغ أحدهم لظالم ظلم أخيه، فهذا أقل ما تستلزمه أرحام الدين والدم والتاريخ والجغرافيا، وهو -بحمد الله- أمر يلتزم به السواد الأعظم من أهل هذه الثغور التزاما مبدئيا، لدواع إيمانية وإنسانية، تتجاوز الاعتبارات السياسية وتعلو عليها.
كما أن كل هذا الحديث الطويل عن المساحات المشتركة لا يمكن -بحال من الأحوال- أن يشمل الاستعانة بالعدو الوجودي المشترك، وهو دولة الكيان الصهيوني التي دفعت كل شعوب الإقليم -ولا تزال تدفع- ثمن وجودها وعدوانها، وعدوان ظهيرها الدولي الغربي. وما معاناة العراقيين والسوريين بأقلَّ من معاناة الفلسطينيين جراء وجود هذه الشوكة المزروعة في قلب الأمة.
بل إن كل العوائق الموضوعة أمام تحرر شعوبنا من الفساد والاستبداد والتمزيق والتفريق لم توضع إلا ضمانا لتفوق هذه النبتة الشائكة على محيطها العربي والإسلامي. فإدخال الدولة الصهيونية ضمن هذا النقاش جدل عابث ومراء لا طائل من ورائه.
وليس فيما ذكرناه ما يمنع من تقديم النصح وتوجيه النقد لمستوى الأداء في إدارة أهل كل ثغر لعلاقاتهم السياسية، وقد كتبنا أكثر من مرة في نقد إدارة (حماس) لبعض علاقاتها السياسية أو تعبيرها عن تلك العلاقات. لكن توقيت النقد مهم، باعتباره جزءا من المعادلات السياقية التي تحتاج مراعاة، وهو في أوقات السِّلم والهدوء أسلمُ وأحكمُ، أما حين يكون أهل ثغر من الثغور يواجهون حرب استئصال دموي -كما هو حال أهل غزة اليوم- فإن الدعم والمناصرة مقدَّم على النقد والمناصحة.
فمهاجمة حركة “حماس” في لحظة الاستئصال والإبادة الحالية، ومحاسبتها بقسوة على بضع مجاملات لفظية منها لقادة إيران مقابل الدعم الاستراتيجي الإيراني لها في ساعة العسرة، يكشف عن أمراض طفولية في الثقافة السياسية العربية اليوم، منها الإفراط في المزايدات، وتجنب طريق الإنصاف، وضعف الحاسة الاستراتيجية، وانعدام الذكاء السياقي.
ولعل المتجادلين من أهل الثغور المتعددة اليوم يتعلمون من إخوانهم في مصر. فلم أرَ في موضوع الثغور المتعددة أوسعَ أحلاماً، وأوطأ أكنافاً، وأعظم إيثاراً، وأعمقَ تفهُّما لظروف أهل الثغور، من أحرار مصر: فقد عانوا في بلدهم التقتيل والتنكيل، والسَّجن والتشريد.. لكنك لن تسمع منهم كلمة قدح في أحرار فلسطين إذا تواصلوا مع السلطة المصرية أو جاملوها بمدح وثناء، ولا كلمة اتهام لأحرار اليمن والسودان إذا استعانوا بها أو لجأوا إليها.. فهل هو “قلب الأمّ”، أمِّ الدنيا؟
والخلاصة أن الثائر الذكي يحرص على ما ينفع قضيته، ويُحكم سَداد ثغره، ويركز على الفاعلية حيث هو، ويتفهم ظروف إخوانه على الثغور الأخرى، ولا يحرِّج عليهم فيما ينفعهم، ولا يضيق عليهم في تحالفاتهم السياسة والعسكرية، ويستثمر “لعبة الأمم” بدهاء وروية، فيناور في الصدوع بين الكبار لخدمة قضيته، دون أن يقع في شراكهم. وهو لا يتوقع من داعم إقليمي أو دولي أن يدعمه إيمانا واحتسابا، وإنما هو يدعمك لتحقيق أهدافه الخاصة التي قد لا تكون في صالحك، وأنت تستثمر دعمه لتحقيق أهدافك الخاصة التي قد لا تكون في صالحه، ولكلٍّ بحسب بلائه ودهائه، وكلٌّ محشورٌ على نِيَته.