فلسفة الإرث وحق الحضور: (إدريس مقبول)
من الآثار السلبية لانتقال الأسرة في مجتمعاتنا إلى النموذج النووي “المصغر” والمغلق؛ والذي ورثناه _قسرا للأسف الشديد_ عن الحضارة الغربية، أن فسدت العلاقات بين الأفراد ومال الجمهور الغارق في الفقر المادي والرمزي إلى تعميم أحكام نسبية وشخصية وإعطائها طابع الإطلاق في تصور المصالح وتداخلها، حتى صرنا إلى شيطنة كثير من عناصر الأسرة الممتدة التي كانت وما تزال إلى عهد قريب أحد أسس التماسك في مجتمعاتنا قريبة العهد، ومن هذه العناصر الأعمام والأخوال ومن نزل منهم والجد والجدة ومن إليهم، حتى ليكاد المرء يتصور نفسه لا داخل مجتمع تضامني وتراحمي، وإنما غابة من الوحوش، ينتهز كل فرد/وحش الفرصة لينقض على غيره، وبخاصة حين يتعلق الأمر بتقسيم الإرث. وآفة هذه الأحكام أنها جزئية ومحدودة ومقتطعة، لا نقول إنها غير موجودة ولكنها محدودة جداومرتبطة بتجارب شخصية لمن يُسَعِّرون بتعميمها نار الحروب بين أفراد الأسرة الواحدة.
لاشك أن الطبيعة الليبرالية ذات النزوع الأناني والتي سكنتنا تدفع في اتجاه مزيد من الانكماش على الذات الأنانية ومصالحها والحذر من كل “آخر” خارجي ولو كان قريبا، والتخويف منه على أنه “تهديد” حتمي، على أنه ذئب بلغة توماس هوبز، في تجاهل لما تفضي إليه هذه الصيغة الطاردة لعلاقاتنا الإنسانية المشروخة اليوم من مزيد من التفكك والتلاشي والعزلة.
إذا كان وضع الإناث في مجتمعاتنا بلا شك يدعو لحمايتهن وحفظ حقوقهن عند انهدام ركن الاسرة الأول، فهناك في الشريعة أكثر من صيغة لحفظ حقوقهن وكرامتهن بالوصية والعمرى وغيرها، وهذا عند الفحص لا يعني أن هذه هي الصورة الوحيدة لتركيبة أسرنا، كما لا يعني أنه يجب الارتماء بعنف وتطرف في حضن المقاربة الآلية “الباردة” والخالية من أي بعد إنساني أو علائقي ممتد، يتشارك فيه الأعضاء موضوع المال والإرث كما يتشاركون تجربة “الحياة” بآلامها وآمالها دون حيف أو ظلم. إننا نكون بهذا السعي المحموم للقتل الرمزي لأحد صمامات أماننا الاجتماعي وتماسكنا الروحي على حافة انهيار حاد، فنحن بذلك نؤسس لمجتمعات مليئة بالثقوب من كل النواحي، حيث لا جد ولا جدة ولا عم ولا عمة ولا خال ولا خالة، بل لا جار ولا جارة إلخ..إنها الثقوب التي تشكل العلامة البارزة لآنية وجودنا الفارغ.
إن العودة لفقه القرآن الكريم تحديدا يجعل رؤيتنا لمسألة الإرث تتجاوز الجدل الفقهي حول المستحقين بالفروض أو بالتعصيب، لأنه اختزال لفكرة “قيمة المال” من جهة و”قيمة العلاقة” المفترضة للبشر بالمال، ذلك أن القرآن يجعل ممن يحضرون تقسيم التركة حتى ولو كانوا خارج دائرة أصحاب الفروض أو العاصبين مستحقين على نحو من الاستحقاق الإنساني لنصيب من هذا المال وليكن على جهة الفرض الأخلاقي أو الندب الذي يترجم حقيقة تسامي العلاقات الإنسانية على موضوع المال، فالإنسان بالنهاية أكرم من المال مهما اتسع. وحق الحاضرين من الأقارب ومن الجيران وغيرهم، وبخاصة إذا كانوا فقراء، على كل حال أولى وأنفع في ميزان الأخلاق مما تأخذه الدولة في بعض الأنظمة الغربية من ضريبة إلزامية على كل إرث.
إن نظام الإرث في الإسلام هو أحد أهم الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية التي تكفل العدالة بحكمة ربانية عالية، نظرا لما سماه المستشرق الفرنسي بول بالطا Paul Balta محتواه القانوني والأخلاقي الذي لا تنفصل في الهندسة التوزيعية عن مبادئ الإسلام وقيمه”([1])، فقد وضع هذا النظامُ الورثة وأنزلهم منازلهم في تركة الموروث حسب اعتبارات دقيقة منها قرابتهم ووضعهم الاجتماعي في الحياة، وأيضا ما تفرضه عليهم هذه الأوضاع من تبعات وأعباء يتلقونها عن الموروث كما تلقوا عنه تركته أو بعض تركته([2]).
وفي ذات الوقت، ومن أجل تمتين الروابط بين عناصر المجتمع من الأقارب وسد حاجة الجيران المحتاجين، شرع القرآن الكريم لمن يحضر قسمة التركة أن ينالهم شيء منها تزكو بها أنفس الورثة من جهة، وتطيب بها نفس القريب غير الوارث، وتُسد بها حاجة المحتاجين لقوله تعالى:” وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه، وقولوا لهم قولا معروفا” (النساء:8).
قال سعيد بن المسيب في تفسير الآية:” إن هذا الحق كان في أول الإسلام، ثم نسخ بالميراث والوصية”([3])، غير أن البخاري أخرج عن ابن عباس أن الآية محكمة ولا نسخ فيها([4]).
وروى ابن كثير رواية عن مالك تقول بإلزام إعطاء القرابة واليتامى والمساكين عند تقسيم التركة([5])، و قد أخذ بهذا الرأي أيضا ابن عطية المالكي و ابن حزم خلافا للجمهور الذين اعتمدوا رأي ابن المسيب في النسخ، وقال:”وإذا قسم الميراث، فحضر قرابة للميت، او للورثة، أو يتامى أو مساكين، ففرض على الورثة البالغين وعلى وصي الصغار وعلى وكيل الغائب، أن يعطوا كل من ذكرنا ما طابت به انفسهم، مما لا يجحف بالورثة، ويجبرهم الحاكم على ذلك، إن أبوا”([6]).
وذكر ابن كثير في تفسيره أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر قسم ميراث أبيه عبد الرحمن وعائشة حية، فلم يدع في الدار مسكينا ولا ذا قرابة إلا أعطاه من ميراث أبيه([7])، فهذه الصور المشرقة وهذه الاجتهادات، وإن وقع فيها الخلاف، تعكس ليس فقط كرم وأريحية نماذج فردية في التاريخ، وإنما بالدرجة الأولى نشاط العقل المسلم في رعاية جوانب مقاصدية غير منظورة، ولكنها موجودة ومؤثرة في حياة العلاقات الإنسانية واستمرارها.
ونظرا لحيوية هذا الأسلوب التكافلي في تجسير العلاقات وتنميتها، فقد قال بوجوبه مجاهد ما طابت به أنفس أهل الميراث([8])، واعتبر الحسن البصري أن “هذه الآية ثابتة، لكن الناس بخلوا وشحوا، والآية خطاب للوارثين: قال: إن كانوا يقتسمون مالا أو متاعا أعطوا منه “([9])، وهذا من باب نظر الفقيه لا باعتباره ناظرا جامدا في ظواهر الصور منفصلة عما وراءها من قيم، فإن دوره هو تقصي القيم ومراعاة المقاصد وأحوال الناس، ولابأس إذا خالف مشهورا إذا ترجحت لديه مصلحة أفضت إلى نظر جديد، فقد كان عمر رضي الله عنه يفتي بفتويين في النازلة الواحدة تتكرر عليه، فيقول حين يسأل: “ذلك على ما علمنا، وهذا على ما نعلم”([10]).
ويفهم من هذا أن سياسات التنمية في مجتمعات المسلمين تتطلب اجتهادا متواصلا من أجل تطبيق مبادئ الشريعة بشكل يلائم الزمان والمكان وأوضاع الناس، وهو جوهر الحفظ والتجديد في هذا الدين العظيم، إذ هو محفوظ إلى قيام الساعة بتجدده وجوابه عن كل أحوال الناس وحاجاتهم في هذا العالم.
([1]) _ Paul Balta, Islam, civilisation et sociétés, Ed. du Rocher, 1991, p60.
([2]) _ محمد الخصاونة، المالية العامة: النظرية والتطبيق، الأردن: دار المناهج للنشر والتوزيع، ط1، 2014، ص31.
([3]) _ ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، تحقيق محمد حسين شمس الدين، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1419هـ. ج2، ص208.
([4]) _ صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، سورة البقرة، باب وإذا حضر القسمة أولو القربى، حديث رقم: 4323
([5]) _ ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج2، ص208.
([6]) _ ابن حزم، المحلى بالآثار، بيروت: دار الفكر، ج9، ص310.
([7]) _ ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، م.س. ج2، ص208.
([8]) _ الطبري، جامع البيان، ج4، ص178.
([9]) _ أحمد فريد المزيدي، تفسير الحسن البصري، بيروت: دار الكتب العلمية، ج1، ص169.
([10]) _ أبو عبيدة القاسم، الأموال، ص374.
([11] )_ أبو حامد الغزالي، مشكاة الأنوار، تحقيق أبو العلا عفيفي، القاهرة: الهيأة العامة للكتاب، 1964، ص44.