فلسفة الدعوة: بين الدعوة إلى الإسلام والدعوة إلى الله(فؤاد هراجة)
لا جَرَمَ أن الحقل الإسلامي قد أفرط في استعمال عبارة ”الدعوة إلى الله “ حتى ظن كثير من المسلمين أن مغزاها قد أصبح جليا واضحا، ولا يحتاج إلى عمق تدبر، ولا إلى ضرورة استدعاء سياق الورود في القرآن الكريم والسنة النبوية. فضلا عن ذلك، غَدَا كل المشتغلين في الحقل الإسلامي عند العامة دعاة إلى الله دون تمحيص دقيق للعبارة. بَيْدَأن المتأمل في قوله تعالى «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا»، سيكتشف أن إقامة الحجة على الناس (شاهدا) وتبشيرهم بسعادة الدنيا ونعيم الآخرة (مبشرا) وتحذيرهم من سوء المصير في العاجلة والآجلة (نذيرا) أمر مُبَايِنٌ تماما لقضية الدلالة على الله ( وداعيا إلى الله)، أو إن صح القول مقام أدني من دعوة الناس إلى معرفة الله سبحانه. على ذلك، ثمة بون شاسع بين أن تُذَكِّرَ الناس بالآخرة ( الجنة والنار) ويكون ذلك مبلغك من العلم، فيتضمن خطابك من جهة، ترهيب الناس من أهوال الآخرة بَعثُها وحسابها وصراطها وعقابها، ومن جهة أخرى ترغيب الناس في نعيم الجنة ودرجاتها؛ فخطاب الترهيب يستدعي مجال الفرائض والواجبات التي يعاقَبُ على تركها ( كالصلاة والصيام والزكاة والحج)، وخطاب الترغيب يستدعي مجال النوافل والرواتب والأعمال التطوعية والأخلاق التي يروم من خلالها صاحبها نيل المزيد من الأجر للارتقاء في درجات الجنان؛ والنتيجة أن المسلم في الأولى يعبد الله خوفا وفي الثانية يعبد الله طمعا، على أن حضور الله في وجدانه يكون بمقدار اللحظات التي ينجز فيها عمله الشعائري التعبدي، ويقدم الخير للآخرين.
ولعل سبب انحصار الفرد في عبادة الخوف والطمع راجع بالأساس إلى الداعية الذي تلقى منه الفرد دينه، ذلك أن فاقد الشيء لا يعطيه، فمن عرف من الدين غير الجنة والنار والخوف والطمع والتبشير والإنذار لن يكون أقصى عطائه في دعوته إلا هذا الحد والمستوى، بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: « المرء على دين خليله، فينظر أحدكم من يخالل» فعلى قدر الداعي يكون المدعو، ومن ظن أن الغاية من الرسالة المحمدية هي ترهيب الناس من أهوال الآخرة، وترغيبهم في نعيم الجنة، فقد توقف في منتصف الطريق ولم يدرك الغاية العظمى من إرسال النبي صلى الله عليه وسلم متمثلة في الدلالة على الله (داعيا إلى الله) أي دعوة الذين التزموا أركان الإسلام في أنفسهم، وشعب الإيمان في قلوبهم إلى معرفة الله سبحانه تحقيقا لقوله تعالى: « وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبون» قال المفسرون ”ليعرفوني“، فالغاية من الخلق معرفة الله تعالى، والمعرفة تكون أولا بتقديره حق قدره، وثانيا بإدراك أفضاله إيجادا وإمدادا، وثالثا بإدراك جماله وجلاله فتسكن محبته في القلب، ومن تم ينتقل المدعو من عبادة الطمع والخوف إلى عبادة المحبة والأنس والقرب. هذا سبيلٌ لا يعرفه إلا متبصر متبع للسُّنَّةِ المحمدية الكاملة لا نصف طريقها، يقول الله تعالى مؤكدا هذا المذهب « قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني» قف رحمك الله على موضع ”أدعو إلى الله“ وأنَّى لغافل عن الله أو محصور في عبادة العبيد ( الخوف من العقاب) أو منتشي بعبادة التجار ( الرغبة في الأجر) أن يدل غيره على الله! لا يدل على الله إلا عارف بالله! عارف تَمَثَّلَ مقام النبوة وتشربه وتشبه به حسا ومعنى، ظاهرا وباطنا، مقاما وحالا…، باختصار، لا يسير في سبيل رسول الله ويدعو إلى الله، سوى عارف بالله، ووارث لرسول الله، استوعب أن الدين إسلام وإيمان وإحسان وترقب للساعة، عارف بالله يدرك أن التدرج في التربية واجب، وأن أعلى مقامات القرب لا يتم الوصول إليها إلا بتثبيت ما تحتها، وأن النفس البشرية فيها من الشهوات والرغبات ما يحجب وظيفة القلب، وما يستوجب الترهيب والترغيب، وما يسمح بعبادة الله خوفا وطمعا استعدادا لعبادته محبة وشوقا. إن الداعية إلى الله، فضلا عن ضرورة إحكامه لمبدأ التدرج في التربية من صَغَار الأمور إلى كبارها، يكون مطالبا بامتلاك قلبٍ سراجٍ منيرٍ تأسيا بسيد العارفين وسيد الدعاة إلى الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. والقلب السراج هو القلب الذي يحترق أولا محبة وشوقا إلى الله، وثانيا يحترق حسرة وكمدا على خلق الله، هذا الاحتراق بحطب المحبة الفانية في الله، وحطب الحسرة الساعية إلى دلالة كل الخلق على الله، هو الذي يُشِعُّ رحمة وحكمة في أقوال وأفعال الداعية إلى الله، فيستحيل منيرا يمشي بين الناس يضيء ظلمة قلوبهم، وينتصب قنطرة بينهم وبين خالقهم، يعبرون عبر قلبه ليعرفون جمال وجلال ربهم، ويذوقون بقلوبهم معنى ”أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك“؛ فشتان بين من يدل على االآخرة( جنة ونار) ومن يدلك على رب الآخرة! وشتان بين من يمضي عمر يعبد الله خوفا وطمعا فحسب، ومن يعبده محبة وشوقا! وشتان بين من تكون غاية أعماله طلب الجنة ومقاماتها ( وهو أمر مطلوب) ومن طلبه وغايته وجه الله تعالى! ثم شتان بين من سبدخل الجنة وتتنعم فيها، ومن سبكون ممن قال فيهم المولى عز وجل: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ» وقوله تعالى «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ»، حتما لن يقوى غدا يوم القيامة على رؤية الله ”نور السماوات والأرض“ إلا من تشرب قلبه نور محبة الله في الدنيا، اقتبسه من صاحب السراج المنير، أو أصبح له قلب منير. لهذه الغاية ومن أجلها لم يترك الرسول صلى الله عليه وسلم وارثا واحدا من الصحابة، بل ترك ورثة بعدد الكُمَّلِ من الصحابة، هيأهم وأعدَّهُم ليكونوا سُرُجاً منيرة يدلون من بعدهم على الله من خلال دين كامل يتدرج من الإسلام إلى الإيمان إلى الإحسان إلى الشوق للقاء الله، أي من الخوف إلى الطمع ومنهما إلى المحبة، بلوغا إلى مقام المراقبة والشوق، ولهذا السبب نزل جبريل في صورة رجل ليُعَلِّم الصحابة مباشرة دينهم في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لا يختزل الناس الدين في مرد طقوس، ولكي يعلموا أن أمر هذا الدين عقبة صاعدة من فرائض الإسلام إلى شعب الإيمان إلى مُنَوِّرَاتِ الإحسان. وبناء على هذا التدليل، سنستخلص أن معظم المفكرين والعلماء والوعاظ المنتسبين إلى الدعوة الإسلامية بكل أطيافهم وتوجهاتهم، لا يغدون سوى دعاة إلى الإسلام والإيمان، مبشرين ومنذرين في أحسن الأحوال، وأن من يسير على سبيل رسول الله يدعو إلى الله ويدل عليه أضحى في زماننا كالكبريت الأحمر، إذا وجدته فَعُضَّ عليه بالنواجد، هو الخليل الذين ستنسخ عنه دينك. ولئن كانت وظيفة الرسول الشهيد عليه أفضل الصلاة والسلام، تتمثل في تأليف القلوبٍ المُسْرَجَةِ التي تمشي بين الناس، فإن مهمة كل عالم مجدد وارث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، هي إعادة إحياء نواة جماعة المسلمين من خلال تربية رعيل من الرجال والنساء الكُمَّل الحاملين لنور النبوة، والحاملين لِهَمِّ الإنسان حيثما وُجد، غايتهم هداية الخلق إلى معرفة الله ومن تم إلى صراطه المستقيم، شأنهم شأن الصحابة الكبار الذين اجتهدوا في نقل أنقى وأطهر نسخة عن كمال الدين كما أخبر به الرسول في حضرة الملك جبريل.وخير ما نختم به هذا التدليل والتفلسف في الدعوة إلى الله ما رشح من حكمة العارف بالله ابن عطاء الله السكندري حين قال: ”من دلَّكَ على الدنيا فقد غشك، ومن دلَّكَ على العمل فقد أتعبك، ومن دلك على الله فقد نصحك“. فاللهم دلنا على من يدل عليك، واجعلنا من أهل القلوب السُّرُجِ المنيرة الرحيمة الحكيمة التي تنفع الخلق، ولا تجعل لنا قلوبنا سُرُجا وهاجة تؤذي الخلق، وارفعنا بحولك وقوتك إلى مقام المحبة والشوق، ولا تقبض أرواحنا إلا وقد أتممت لنا مدارج الدين إسلاما وإيمانا وإحسانا وترقبا للساعة، واكتب لنا من حظ النبوة والصحبة ما يؤهلنا لاقتفاء أثر سبيل رسولك الأعظم صلى الله عليه وسلم، هذا رجاؤنا فيك، فلا وجهة ولا مقصد لنا إلا أنت يا أرحم الراحمين.