في إشكالية تطور الدولة في المغرب: (محمد شقير)_4_
ثانيا : المقاربة السوسيولوجية
انبثقت هذه المقاربة من خلال الدراسات الأجنبية التي اهتمت برصد البنيات الاجتماعية لمغرب ماقبل الاستعمار و بالأخص مفهوم القبيلة ، الزوايا، أو المخزن أو الدولة بصفة عامة.
ويمكن أن نصنف هذه الدراسات إلى الاتجاهات التالية :
– المدرسة الفرنسية التي تزعمها كل من ربير مونتاني (3) وجاك بيرك(4) وميشو بيلار(5) .
– المدرسة الانجلو-ساكسونية التي تجسدت من خلال أعمال كل من جيلز(6) وواتربوري(7) .
– المـدرسـة الـمـغـربـية التي بدأت معالمها تتضح من خلال بعض المنشورات الدورية (النشرة الاقتصادية و الاجتماعية المغربية) و (مجلة أبحاث) وكذا من خلال إشراف بعض الاكاديميين على بـض الأعمال الجامعية التي تصب في الميدان السوسيولوجي .
وقد أخذت هذه الأخيرة على عاتقها في البداية انتقاد المرتكزات النظرية(1) التي استندت عليها المدرستان السابقـتان و ذلك لسببين رئيسين : أولهما ظاهر ، يتجلى في فضح” الخلفية الاستعمارية” لهاتـيـن الـمـدرسـتـين ، و خاصة الفرنسيـة ، و الثاني يكمن في رغبة ” السوسيـولوجين الجدد ” في إثـبات ذاتـهـم و طموحهم إلى ” مـغـربـة” القطاع السوسيولوجي بالمغرب . لكن إلى جانب ذلك ، اهتمت هذه المدرسة أيضا بملامسة البنيات السياسية المغربية ، وخاصة تطور الدولة بالمغرب.
ويمكن أن نحدد الكتابات التي اهتمت بهذه الاشكالية في اتجاهين اثنين :
1 – الطرح التصنيفي
2 – الطرح الترصيفي
1 – الطرح التصنيفي
يـرتـكـز هـذا الـطـرح عـلـى إشـكـالـيـة رئـيـسـية تتمحور حول التساؤل التالي : “ماهو الشكل و المضمون الذي اتخذه الحكم السلالي في المغرب ؟ ” (2) .
وللإجابة عن هـذا التساؤل ، يـتـم تـحـديـد الإطـار الـمـعـرفـي الذي سيبحث من خلاله عن إجابة عملية لهذه الاشكالية ؛ حيث ” تستدعي الاجابة على هذا السؤال، محاولة رصد مفهوم الدولة عبر التاريخ السياسي المغربي ابتداء من دولة البرغواطيين و الأدارسة و انتهاء بدولة العلويين . (3) “
أما مسلمات هذا الطرح فـقـد تـم تحديدهما في معطيين اثنين : الواقع القبلي و الميراث السياسي الاسلامي . وهكذا يشير صاحب هذا الطرح إلى مايلي :
“إن الحكم السلالي في المغرب كواقع اجـتـمـاعي و سيـاسي يـجـد جذوره الاجتماعية في تواجد عاملين أساسيين : الواقع القـبلـي الـذي يـميـز و يـتـمـيز به المغرب و كذا الميراث السياسي الاسلامي كفقه و كتاريخ .” (1)
مـن هـنا خـلـص صاحب هـذا الطـرح إلـى وضـع تـصنـيف لمختلف الدول التي عرفها المغرب من خلال الاستناد إلى معيارين أساسيين : العصبية و الشرف . (2)
أ – الدولة و العصبية
من خلال هذا المنظور، عرف صاحب هذا الطرح الدولة القبلية بأنها تـلـك الدولة التي ” تنبثـق عن حركة قبلية تتجسد في المطالبة بالسلطة السياسية من طرف قبيلة أو اتحاد قبلي، وذلك عبر عصبية بدوية تطعمها دعوة دينية تنادي باصلاح ديني-سياسي-اجتماعي و تطعن في الشرعية السياسية للدولة القائمة. ” (3). و من أهم مميزات هذه الدولة القبلية مايلي :
– تكون هذه الدولة عبارة عن مطالبة إحدى الاتحاديات القبلية الكبرى بدورها في ممارسة السلطة.
– تكون هذه الدولة تعبيرا عن الخصوصيات البربرية و عن الإدارة في الاستقلال السياسي-الديني .
– تكون العلاقة بين السلطان و الفقهاء و الزوايا شبه متساوية .
– طابع هذه الدولة هو الجهاد الخارجي . (4)
ورغم أن هذه الـخـصـائـص تتميز بها مختلف الدول القبلية ؛ إلا أن هناك خاصية معينة استند إليها صاحب هذا الطرح ليضع تصنيفا آخر لهذه الدولة. ويتجلى هذا المعيار في مسألة التبعية فهناك دول تميزت بطابعها الانفصالي و تتحدد في :
– دولة برغواطة
– دولة الأدراسة
ودول تميزت بطابعها التبعي و تتحدد في :
– دولة بني أبي العافية
– دولة بني يفرن
– الدولة المغراوية.
ودول استقلت نهائيا عن الخلافة المشرقية و تتجلى في :
– دولة المرابطين
– دولة الموحدين
– دولة المرينيين.
وقـد تـم تـحـديـد فـتـرة امـتـداد الـدولـة الـقـبـلـيـة مابـيـن الـفـتح العربي للمغرب و انقراض الدولة المرينية(1) . لكن ” هذا لايعني أن الدولة القبلية لم تكن معروفة قبل الفتح العربي-الإسلامي فتجارب ماسينسا وجوغورتا كانت تجارب سياسية قبلية … ” (2)
كما يؤكد هذا الطرح على أهمية الدعوة في قيام و استمرارية الدولة القبلية المغربية . حيث تجلت هذه الدعوة السياسية في ترسيخ المذهب المالكي في المغرب و ذلك منذ المراحل الأولى لقيام هذه الدولة ؛” فتبعية الدول الزناتية للخلافة الأموية مهدت الطريق أمام ترسيخ المذهب المالكي في المغرب، و الذي سوف يكرس مع وصول المرابطين إلى الحكم . (3)“
و وفق هذا الطرح، فـإن ارتـكـاز الـدولـة القبلية على الدعوة سيؤدي إلى إعطاء مكانة سياسية متميزة للفقهاء وذلك للأسباب التالية :
– احتكار الفقهاء لمعرفة اللغة العربية . (1)
– إضفاء الشرعية السياسية على الحكم . (2)
وفي هذا يقول اكنوش : ” لفهم دور الفقهاء في الدولة المرابطية لابد من ضبط المعالم النظرية للإسلام المرابطي . فـمـنذ دعوة عبد الله بن ياسين، ونـظرا لقلة أو لعدم معرفة برابرة الصحراء باللغة العربية، جاء إسلاما بسيطا يعتمد بالأساس على الفروع من صلاة وصوم وزكاة، و ينفي الأصول وكل مايتصل بالايمانيات وعلم الكلام . فكان بـذلـك مـشـجـعـا لـلـفـقهاء على أن يلعبوا دورا كبيرا في المجتمع المرابطي قصد تدبير شؤون العبادات بين الجمهور. بل تعدوا ذلك و أصبح لهم تأثير بالغ في الأمور السياسية العامة” (3)
ولم يـقـتـصر هـذا الأمـر عـلى المرابـطـين فـقـط ، بل اسـتمر أيضا مع الموحدين و كذا مع المرينيين الذين عملوا على تكريس المذهب المالكي من خلال عدة إجراءات رسمية من أهمها :
– بناء المدارس
– وضع برامج دراسية إجبارية تحرص على دراسة كتب الخليل ومالك
– الإشراف على حج المغاربة للديار المقدسة
وفي هذا الاطار يشير اكنوش إلى مايلي : قـام الـسـلطـان أبو سعيد عثمان المريني سنة 1321 باعطاء نقطة الانطلاقة ببنائه لمدرسة البيضاء بفاس الـجـديـدة ثم بنيت فـيما بعد مدارس الصهريج و العطارين و الطالعة بسلا و كذلك مدارس المصباحية و البوعنانية . وقد كان يصرف على هذه المدارس انطلاقا من عائدات الأملاك المحبسية “… “بالاضـافـة إلى هذا وضـعت السلطات المرينية برامـج دراسية إجبارية داخل هذه المدارس . كما جعلت مـن كـتـب الـخلـيل و مالـك كتبا رسمية و إجبارية في دراسة الفقه الإسلامي . ومن النتائح الأساسية التعليمية الانتاج الهائل للكتب الفقهية التي تتطرق أساسا للفروع لا للأصول إلى درجة أن المغرب صار يـصـدر لـلخـارج و خـاصة إلـى الشرق فقهاء مالكـيـين لا معين كبرهان الدين الصنهاجي و بدر الدين الغماري و أحمد بن يعقوب الغماري . ” (1)
ب – الدولة و الشرف:
بالموازاة مع الخـصـائـص الـتي تتميز بها الدولة القبلية، يحدد اكنوش سمات معينة تتميز بها الدولة الشريفية . و تتمثل فيما يلي :
– عدم الانتماء إلى قبيلة أو اتـحاد قـبلـي مـعـيـن، فـهدفها هو التعالي على القبائل و محاولة إخضاعها لسلطة موحدة .
_ ظـهـور الـسلـطـان الشريفي، بخلاف السلطان العصبوي، بمظهر الحكم الأجنبـي الذي لايـخـوض في غمار الصراع العصبي .
– الدولة الشريفية لا ترتبط في شرعيتها بمركز خلافي معين .
– عـلاقـة الـسلطان بالفقهاء و أرباب الزوايا علاقة متمايزة و متفاوتة؛ فالسلطان يظهر بمظهر المحتكر للإنتاج الرمزي، ويبقى مدبروا المقدس اليومي الآخرون في موقع التبعية و الولاء.
– طابع هذه الدولة يبقى الجهاد الدفـاعي ضـد الغـزو الأوربـي و إعـادة إحياء السنة السياسية الدينية الاسلامية و كذا تقوية الجبهة الداخلية و خلق شروط بناء الدولة الأمة (2)
من خلال هذه الخصائص، يتضح أن الباحث رسم حدودا فاصلة بين الدولة القبلية و الدولة الشريفية. و مما يؤكد ذلك إشارته التالية :
” إن السـلـطـة السـيـاسية الـمعـتمـدة على مـفهوم الشرفاوية لم تظهر في المغرب إلا خلال نهاية القرن الخامس عـشـر و بداية القرن السادس عشر الميلادي ، فهو يعني نهاية الدوران السلالي حول الحكم و المنبعث من أصل قبلي . ” (1) و هذه القطيعة السياسية التي حققتها الدولة الشريفية مع الدولة القبلية أفضت،حسب الباحث، إلى تغيير شامل، في بنية السلطة سواء من حيث ركائزها أو وسائلها أو أهدافها .
– فـفـيما يـخـص ركائـز السـلـطة؛ فـالـدولة الـشريفية أصـبحـت تـعـتمـد في جـوهرها على الانتماء للبيت النبوي، وعلى الدور الذي يقوم به الشرفاء كنخبة اجتماعية و سياسية. (2)
– أما وسائل الـسلطة فإنـها تـقـوم بالأسـاس عـلى إنتاج سياسية دينية ترمي إلى احتكار الخطاب الديـني و السياسي فـي الـبلاد، مـما يـفـسـر بالطـبـع كـل الاجراءات الـتي اتـخـذها الـسـلاطـين، من مختلف الأسر الحاكمة، ضد كل منافس أو معارض للسياسية الرسمية . (3)
– ويكمن هـدف السلطة في خـلـق و ترسـيخ دولة مركزية تتجاوز كل الخصوصيات القبلية وتحاول تـفـكيك كل الفعاليات الجهوية؛ ذلك أن” هدف الدولة الشريفية التعالي على القبائل و محاولة إخضاع هذه الأخيرة لسلطة موحدة ومحايدة بالنسبة للنزاعات القبلية . ” (4) ” وخلق شروط الدولة-القومية” (5)
وعـموما، فإن مـيـزة هـذا الطرح تـكمن في الطـمـوح إلـى تـحديـد و رصد التطور الذي عرفته المؤسسات السياسية بالمغرب. و يتجلى هذا بوضوح من خلال إشارة الباحـث التالـيـة : “نـخـص الـتاريخ السياسي و الـمؤسساتي المغربي بالأولوية الأولى، وذلك مـن الفـتـح العربي الاسلامي إلى يـومـنا الحاضر مـتـتـبـعين في ذلك كل التغيرات و التطورات التي عرفها المغرب في الميدان المؤسساتي. ” (1)
كما تكمن الميزة الـثـانـية لـهـذا الـطـرح من خلال محاولة تفسير العملية السياسية التي كانت وراء إحياء المؤسسات التراثية منذ منتصف الثمانينات و العمل على إدماجها في مؤسسات الدولة العصرية المغربية.
بالاضافة إلى ذلك فهناك ميزة ثالثة يتضمنها هذا الطرح، وتتجلى على الخصوص في محاولة تفكيك الخطاب الايديولوجي للـنـظـام السـيـاسـي الـقـائم على اعتبار >> العرش العلوي نفسه الوريث الوحيد لأربعة عشر قرنا من التاريخ السياسي السلالي المغربي، كما يعتبر نفسه ضامن هذه الاستمرارية السلالية. فالخطاب السياسي للملكية حول ذاتها يتمحور باستمرار حول كون هذه المؤسسة وريثة المملكة الإدريسية الفاسية. بالاضافة إلى هذا يربط الخطاب الايديولوجي المؤسسة الملكية بالدين الاسلامي، و يجعل من الإثنين – الملكية و الإسلام – رمز الوحدة المغربية …” (2)
كما تتجلى الميزة الـرابـعة لهذا الطرح في اهتمامه منذ البداية بانتقاد الكتابات السوسيولوجية و الانتربولوجية التي أغفلت ربط الواقع القبلي المغربي بالسياق التاريخي و السياسي؛ على عكس الاخباريين و المؤرخين الذين كانت لهم ” نظرةمزدوجة للقبيلة عرقية و سياسية. فهم لاينظرون إليها إلا كوحدة سلالية لها علاقة متينة باشكالية السلطة و الدولة . “
غـير أن حـدود هـذا الطرح تـتـجـسـد مـن خـلال مـنـطلقاته الفكرية و المنهجية. فهذا الطرح يرتكز بالأساس على الـبحـث فـي تـطـور الـحـكـم الـسـلالـي بالـمـغـرب . لكن مـا هـو الحكم السلالي ؟ في الـحـقـيقـة، لايوجد ضمن هذا الطرح أي تـعـريـف مـحـدد لمـاهية الحكم السلالي. فهناك فقط تشخيص لهذا الحكم الذي اعتبر واقـعا اجتماعيا و سياسيا مرتبطا بتواجد النظام القبلي و الميراث الاسلامي . (1)
لذا فالحكم السلالي، وفق هذا المنظور، يعتبر” ماهية سياسية متعالية ” لايمكن أن نرصد تطورها إلا من خلال الأشكال السياسية التي تتخذها . وتكمن هذه الأشكال بالطبع في مفهوم الدولة . (2)
لكن مفهوم الدولة يبقى غـامـضا و غير محدد. ويتجلى ذلك من خلال التصنيف الذي تم به تحديد أشكال الحكم السلالي :
– فهناك دولة قبلية مقابل دولة شريفية
– لـكـن ضـمـن كـل دولـة مـن هـاتـيـن الـدولــتـيـن هـنـاك دول : فـالــدولة القـبـليـة تـتـضمن دولة برغـواطة، دولة الأدارسـة،دولـة مـغـراوة،دولة المرابطين … في حين أن الدولة الشريفية تتضمن دولة السعديـيـن و دولة العلويـين. مما يجعل المرء يتساءل عن حدود التـمـيـيـز بين ” الدولة القبلية” وتفريعاتها ( دولة برغواطة مثلا)؛ مادمنا نطلق نفس التسمية على كلتا الدولتين.
و إذا اعتبرنا أن معيار العصبية قد يشكل معيارا مقبولا للتمييز بين الدولة القبلية و الدولة الشريفية؛ فمعيار الـشـرف يـبـقـى مـع ذلـك غـير مـقـنع بدليل أن الدولة الإدريسية، التي تم اعتبارها ضمن نموذح الدولة القبلية، هي في إحدى خصائصها دولة ينتمي مؤسسوها إلى السلالة النبوية . بالاضافة إلى ذلك فالشرف كان مثار جدل بين الأسر التي تدخل ضمن نموذج الدولة الشريفية مما يفضي إلى القول بأن الشرف لم يكن أبدا عنصرا حاسما في الوصول إلى سدة الحكم، و هذه هي النتيجة التي تم التوصل إليها ضمن هذا الطرح؛ حيث تمت الاشارة إلى ذلك من خلال مايلي :
“عـلـى كـل حـال، فـإن الـطعن في النسب الشريف للسعديين، يعني سياسيا و اجتماعيا، أن موضوع الانتساب للشجرة النبوية لعب دورا متواضعا في وصولهم للحكم. ” (3) ويبلغ التناقض مداه، حينما يتم ربط نشأة دولة السعديين و العلويين بظروف سياسية بعيدة عن معطى الشرف. ويظهر ذلك من خلال مايلي :
” تـخـتلف ظروف الشرفاء السعديين عن ظروف ظهورالشرفاء العلويين، فإذا كانت ظروف ظهور الأولين تـتـعـلـق أسـاسـا بـظـاهـرة الاحـتلال الأجنبي للساحل المغربي، فإن ظروف ظهور الآخرين تمحورت بالأساس حول إعادة توحيد البلاد و إنعاش الجنوب المغربي اقتصاديا.” (1)