المقالات

في إشكالية تطور الدولة في المغرب: (محمد شقير)_5_

2 – الـطـرح الـتـرصـيـفـي

         يدخل هذا الطرح ضمن منظومة  الأبحاث التي اهتمت برصد التطور الذي عرفته الدولة العربية المعاصرة سواء في بعدها القومي أو بعدها القطري. فعلى المستوى القومي يميز العروي بين نوعين من الدول : الدولة السلطانية و دولة التنظيمات؛ وعلى المستوى القطري يرصد الهرماسي انتقال الدولة المغاربية من دولة مخزنية إلى دولة باترمونيالية . وفي هذا السياق يأتي كتاب بلمليح (البنيات السياسية للمغرب في عهد الاستعمار) ليطرح منظورا جديدا في تحديد التطور الذي عرفته الدولة المغربية عبر تاريخها. وتتجلى جدة هذا الطرح في البعد الديناميكي الذي يميزه، وذلك من خلال رصد حثيث لعملية تطور الدولة المغربية من دولة سلطانية إلى دولة تراصفية او سديمية .(Etat sedimental ).

وهكذا  حدد صاحب هذا الطرح عملية التطور هذه من خلال ثلاث مراحل أساسية :

– المسار التاريخي للدولة السلطانية

– تكون الدولة التراصفية

– مأسسة النظام التراصفي.

       أولا  :  المسار التاريخي للدولة السلطانية

ينـطـلـق هـذا الـطرح مـن مسلمة أساسية تتلخص في هشاشة البنيان السياسي للدولة السلطانية منذ مراحل تكونها الأولى . و تتجسد هذه الهشاشة في التشرذم السياسي الذي كان يعرفه المغرب سواء قبل الاحتلال الروماني او بعده . فالاحتلال الروماني للمغرب ، نتيجة لطبيعة هذا الاحتلال و أهدافه الاستراتيجية، لم يستطع تغيير  هـذه الـوضـعـيـة ؛ حـيـث بـقـي الـمـغـرب حتى بداية الفتح العربي ”  مجالا سياسيا مشرذما و تعدديا”(1) . بل إن طبيعة التقسيم الاداري الروماني للمغرب قد زاد من حدة هذا التشرذم (2).

 ورغم المنظور السياسي الجديد الذي حمله الفاتحون العرب إلى المغرب، و الذي يقوم بالأساس، على ضرورة تبني مفهوم الوحدة السياسية ، و رغم المحاولات التي قام بها الأدارسة لتكريس هذا المفهوم و تكوين معالم مركز سياسي يتجلى في بناء عاصمة سياسية للبلاد، فإن هشاشة البنيان السياسي للدولة السلطانية بقي مستمرا حتى في عهد الأسر الحاكمة التي أتت بعد الأدارسة.

وقد حاول بلمليح أن يرصد عوامل هذه الهشاشة السياسية من خلال الأسر الحاكمة التي تعاقبت على عرش المغرب . حـيـث خـلـص إلـى أن كـل واحـدة مـن هذه الأسر قد عانت من هذه الهشاشة . ولم تتمكن، رغم كل الجهود السياسية التي بذلتها، من إيجاد حل لهذا المشكل :

         – فالحكم المرابطي لم ينجح في إقامة جهاز حكومي مستقر؛ و لم يـسـتـطـع حـل لا الـمشكل العسكري و لا التنظيمي ولا الايديولوجي . ويفسر الباحث هشاشة الحكم المرابطي بطـبـيـعـة الـبـنـيـات الاجـتـماعية القائمة و المضمون الايديويولوجي للمشروع السياسي المرابطي . ” ففي مجال ذي طابع انقسامي، تقوم السلطة المركزية بالأساس على القوة العسكرية. إذ أن مجموعة ذات طابع انقسامي تنفصل عن البنية القبلية العامة لتفرض سلطتها. و بالتالي ففرض الطاعة يرتبط بالأساس بميزان القوى. أما على المستوى الايديولوجي، فالاستناد إلى الدين يقوم بوظيفة إدماجية تسهل عملية الاستيلاء على السلطة. لكن ثبت أن أي حكم ينزلق إلى المجال الاصلاحي عادة مايضعف نفسه؛ بحيث يكثر من منافسيه السياسيين و يجعل من الحاكمين هدفا سهلا للمناوئين.

         – أما الحكم الـموحـدي فـرغـم تـشدده الايديولوجي و بنيته التنظيمية المتطورة نسبيا، فقد بقي يعاني من تناقضات على المستوى الضرائبي و العسكري و كذا على مستوى سياسته الخارجية.  الشيء الذي فسره الباحث بما يلي :

” إن هشاشة الدولة الموحدية يكمن في ثلاثة عوامل : مضمون المشروع السياسي، وطبيعة القوة الاجتماعية الذي اعتمد عليها و أهمية العامل الخارجي. “

– فـي حين أن الحكم المريني، الذي ظهر في خضم تحولات اجتماعية و سياسية داخلية و دولية عميقة، تميز على الخصوص بمحاولته الاستقلال عن المجتمع القبلي و ذلك من خلال الاعتماد على موارد خارجية و تـكـويـن جـيـش مـن بـنـي هلال كلف بجمع الضرائب. أما على المستوى الايديولوجي فقد ساعد على ترسيخ المذهب المالكي . ورغم كل ذلـك فإن الـحكم الـمريني لم يسلـم من التشرذم السـياسي وظـهـور قـوى سيـاسية معارضة عملت على الاطاحة به .

وبحلول القرن 16 الميلادي، واجه المغرب عدة تـغيرات سياسية داخلية و خارجية حـددت شكل الحكم المركزي و طبيعة أسـس الشـرعنـة الـتي سـيـسـتـند عـلـيها . كـما واجـه الـمغرب تـهديدات خارجية تمثلت بالأساس في الامبريالية الايبرية و التركية و تحول طرق التجارة .

– ولـلـتـأقـلـم مـع هـذه المستجدات، ظهر الحكم السعدي معتمدا على الشريفية كأساس جديد للشرعية السياسية، وعـى نظام مخزني متطور يتجاوز النخب القبلية وعلى جيش يتكون من عناصر أجنبية . وقد تطلب كل ذلك مـوارد مـالـيـة ضخمة حاول السعديون أن يستخلصوها من الحملات الخارجية واحتكار بعض النشاطات التجارية بـعـدما أثـقلوا كاهل الشعب المغربي بالضرائب. لكن رغم كل هذه التجديدات السياسية و التطويرات التنظيمية ؛ فـقـد ” بقي مشكل الهشاشة السياسية مطروحا، الشيء الذي أدى إلى انهيار الدولة كما ينهار قصر من الورق.”

ويفسر الباحث هشاشة الحكم السعدي بالعوامل التالية :

– فشل الحملات الخارجية في تأمين الموارد المالية للدولة.

– اضطرار الحكم السعدي للتعامل مع قوى سياسية داخلية سواء عبر التحالف او عبر الحرب.

– اعتماد الـحـكـم الــســعـدي عـلـى الـشـرف جعله يواجه عدة معارضين للسلطة و طامحين للاستيلاء على الحكم بدعوى انتمائهم للبيت النبوي.

– من هنا ظهرت الدولة الـعـلـويـة في إطار نفس السيرورة السياسية المعادة، و التي تقضي باعادة توطيد  السلطة المركزية لكن في مناخ سياسي داخلي خاص يتميز بظهور الزوايا كمراكز لسلطة موازية . لذا فإن المـشروع العلوي قـد تـحقـق فـي إطـار تـشـرذم سياسي اضطر معه الحكام إلى اللجوء إلى سياسة تخلط بين الدبلوماسية و القوة و التحكيم . ومع ذلك فـقـد حـاول بـعـض الـسلاطين أن يقووا من استقلالية الدولة عن المجتمع القبـلـي و ذلـك إما بإ نشاء جيش من العبيد يعمل على ضمان استقرار الدولة  و البحث عن موارد مالية خارجية و ذلك من خلال التعامل التجاري مع أوربا . غير أن هذا التعامل سيرهن موارد الدولة بالتجارة  الأوربية؛ الشيء الذي ستستغله القوى الأوربية للتدخل في المصير السياسي للمغرب.

بعدما رصد الباحث مظاهر الهشاشة السياسية للدولة السلطانية و العوامل التي كانت وراء ذلك؛ حاول رصد التهديدات الخارجية التي بدأت تواجهها منذ منتصف القرن 19 . وقد تمثلت هذه التهديدات في التدخل الأوربي مستخدما في ذلك عدة أساليب و التي تمثلت على الخصوص في :

– أساليب تجارية (تكثيف التجارة مع المغرب و عقد اتفاقيات تجارية معه )

– أساليب قانونية تمثلت في الشبكات القنصلية ونظام الحماية

– أساليب دعائية تجسدت في البعثات التبشيرية و التطبيب . وأمام هذا الخطر الذي بدأ يتهدد الحكم السلطاني، و الذي تمثل على الخصوص في تقليص مظاهر سيادة الايالة الشريفة، عمد السلاطين إلى تدشين مجموعة من الاصلاحات شملت عدة ميادين من أهمها :

 – الميدان العسكري وذلك من خلال تكوين نواة لجيش نظامي.

– الـمـجـال الإداري و ذلـك مـن خـلال خـلـق بعض الأجهزة و بعث بعض الأطر للتكون سواء في مصر أو اوربا .

– المجال الضرائبي وذلك بفرض مايسمى بالمؤونة التي أثارت حفيطة العلماء و الشرائح الحضرية . لكن كل هـذه الإصلاحات بـاءت بالـفـشـل -نـتـيـجـة لـيـس فــقــط  لــغـيـاب اتـفـاق حـولـهـا- بين المخزن و أوربا و الشعب ولكن أيضا لأسباب عميقة فسرها الباحث بما يلي :

أولا : إن المجتمع المغربي في القرن  19لم يكن مـتوفـرا على الشروط التي تسمح بقيام طبقة اجتماعية تشكل عنصر تغيير و تكون صاحبة مشروع اجتماعي على شاكلة البرجوازية الأوربية. ثانيا : إن الإصـلاحـات الـتي كانـت تـنـادي بها النـخبة المغربية كانت ترتكن إما إلى منظور سلفي أو منظور تقني .

ثالثا . كان الـهدف من هـذه الإصلاحات هـو إنـقـاذ الدولة السلطانية أو تقويتها قي حين تم تغييب المجتمع المدني.

رابعا : كانـت الاصـلاحات الـتي تـطـالـب بـها الـقــوى الأوربـيـة تـسـتـهـدف بالأساس إضـعـاف الـدولة السـلطـانية و لـيـس توطيدها ، بالاضافة إلى ذلك كان منطق الاصلاحات التي تطالب بها لايتلاءم  و منطق الدولة السلطانية .

وقد تمثل فشل هذه الإصلاحات في المصير المحتوم الذي انتهت إليه الدولة السلطانية المغربية ،بحيث أرغمت على التنازل عن سيادتها لكل من فرنسا و إسبانيا .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق