في إشكالية تطور الدولة في المغرب: (محمد شقير)_7_
ثالثا – مأسسة النظام التراصفي
إن النظام التراصفي الذي تم تدشينه في المغرب من خلال إرساء المؤسسات الاستعمارية بدأ يتمأسس بشكل حثيث و ذلك منذ عشرينات هذا القرن. وقد تم اللجوء في مأسسة هذا النظام إلى الدعائم التالية :
1 – الدعائم السياسية: انطلاقا من بـعـض الـتـصـورات الـمحددة للمجتمع المغربي، وضعت السلطات الاستعمارية سياسة للتعامل بها مع مـكـونات هذا الـمجتـمع و الـتحـكم فـيه . وقـد انـطـلـقـت هـذه الـسياسية الاستعمارية من مبادىء سياسية محورية تتلخص في :
أ – مـبـدأ الأصـالـة أو الـمحافـظة الـذي يـقـوم بالأساس عـلى الـحفاظ على البنية السلطانية الشيء الـذي أتـاح لـســلـطـات الـحماية أن تـعـتـمد على النخب الـتقليدية المحلية و في نفس الوقت إضفاء الشرعية على السياسة الاستعمارية .
ب – الـنـزعة البربرية الـتي كانـت تـقـوم عـلـى محـاولة إدمـاج جزء من المجتمع المستعمر ثم العمل على التفريق بين شرائح هذا المجتمع لمواجهة الأفكار القومية و السلفية .
ج – الـتقسيم سواء على المستوى الـترابي ( 3 مراكز نـفـوذ) أو الـمؤسسي (أجـهـزة فرنسـية و أجهزة مـغـربــية) أو القـضائي (محاكم فرنـسـية، مـحـاكـم إسـلامـية، محاكم يهودية، محاكم عرفية) أو علـى الـمسـتوى الـتعـليمي (مـدارس إسـلامـيـة، مـدارس بـربـريـة) و حـتى عـلـى المـستوى العمراني (مدن جديدة -مدن قديمة).
د – مـراقـبـة الـعالم الـقـروي ؛بـحـيـث فـرضت السلطات الاستعمارية مراقـبـة مشددة عـلى الـوسط الـقـروي حـتـى لاتــتــســرب إلـيـه الـحركة الوطـنيـة . فـقـوت الـجـهـاز القايـدي ، وفرضت رخص التنقل و واجهت الدعاية الوطنية في الأسواق .
2 – الدعائم الاجتماعية: تم الاعتماد في هذا الاطار على دعامتين أساسيتين : الجهاز الإداري و النخب الاستعمارية .
أ – الجهاز الإداري كوسيلة للمأسسة: شـكـلـت الإدارة أهـم مــؤسـسـة فـي الـنـظـام الـتراصـفـي بـوصـفـا كانت عاملا منظما و منسقا وضامنا للمشروع الاستعماري. و هـكـذا تـفـرعـت الادارة فـي مـخـتـلـف جـوانب و مـكونات الـمـجـال الـمـغـربـي مــعـتـمـدة في ذلـك عـلـى الــمـراقــب الــعـسكـري و الـمراقـب الـمـدني الـلــذان كـانـا يــجـســدان الإدارة على الصعيد المحلي ورئيس الجهة الذي كان يمثلها على الصعيد الاقليمي .
أما من ناحية الصلاحيات؛ فقد توفرت الإدارة على اختصاصات واسعة و امـتد نشاطها إلى عدة ميادين . “فالنظام التراصفي هيمنت عليه الادارة التي تعتبر بمثابة جهاز لاتخاذ و تنفيذ القرارات. و بالتالي فهي محرك النظام السياسي . “.وترجع هيمنة الادارة الاستعمارية داخل النظام التراصفي إلى عدة عوامل من أهمها :
– طبيعة النشاطات التي تقوم بها و كذا الوسائل التقنية التي اعتمدت عليها .
– الثقافة السياسية المحلية التقليدية المرتكزة على أسس شمولية
– عدم وجود قوة مضادة تحد من سلطة الادارة ؛ فلم تكن هناك أية مؤسسة أو قوة اجتماعية منظمة تستطيع مواجهة المنطق السلطوي للإدارة .
ب – النخب الاستعمارية: عملت الـسـلـطـات الاسـتـعـمـارية على خـلـق الـشـروط الاجـتـماعـية المـواتية لإعادة إنتاج النموذج الاستعماري، وذلك من خلال التشجيع على ظهور شرائح اجتماعية تحافظ على استقرار النظام التراصفي.
وقد تشكلت هذه الشرائح من نوعين من الفئات :
– الفئات الاستعمارية: و قـد تـكـونـت هـذه الـفـئات خـاصـة مـن المعمرين و الباطرونا الذين كانوا يشكلون جماعات ضغط تهتم بالتأثير على أجهزة الإقامة العامة أو على مستوى سلطات الميتروبول . و بالاضافة إلى هاتـين الفئتين ؛ كانت هناك فئة من التجار و الموظفين و العمال الأوربيين التي كانت حريصة على تكريس إيديولوحية النظام الاستعماري وضمان استقراره السياسي . كما لعبت الـجـالية الجزائـريـة دور الوسيط بين الفرنسيين و مسلمي المغرب؛ حيث تمثل هذا الدور بالخصوص في اشتغال الجزائريين في قطاع التعليم و الترجمة .
– الفـئات المحلية: اعـتمـد الـنظـام الاسـتـعـمـاري عـلى شريحـتـيـن اجتماعيتين محليـتـين تـتمـثـلان فـي القواد و الزوايا. فاختيار الـحـكـم الاسـتـعـماري القواد كحلفاء في البداية يرجع إلى طبيعة المنطق التراصفي للنظام وكذا لاعتبارات سياسية و تاكتيكية . و قد تم توظيفهم فيما بعد لاستكمال مأسسة النظام و التحكم في المجال القروي . لذا فقد وجد فيهم النظام حليفا استراتيجيا أثناء صراعه مع القصر و الحركة الوطنية ، وتمثل ذلك على الخصوص في تزعم بعض القواد حركة الاطاحة بالسلطان محمد الخامس . . كـما اعـتـمـد الـحكـم الاسـتـعـماري على الـزوايـا كـوسـيـلة لـلـتحكم و المراقبة نظرا للوظائف التي كانت تلعبها داخل المجتمع المغربي و التي تجسدت على الخصوص في الوساطة و التنشئة السياسية و كمركز للمراقبة . لذا فـقـد وجـدت السـلـطات الاستعمارية في الزوايا حليفا أساسيا منذ بداية التدخل الاستعماري في شمال المغرب، وذلـك عـن طريـق الـشريف الـوزاني الذي قام بتسهيل مرور القوات الفرنسية، في حين وجدت ضالتها المنشودة في شيخ الكتانيين عبد الحي الذي لعب دورا أساسيا في عملية الانقلاب ضد العرش . وعموما، فإن هذا الطرح يرتكز على مفاهيم متقدمة جدا في تناولها لتطور الدولة في المغرب. فهو يضع هذا التطور في إطار إشكالية ديناميكية وأكثر شمولية .
– فـمـن الـناحـية الشـمـولـية، اهـتـم هذا الطرح برصـد البـنـيـان السـياسـي الـمغـربـي مـنذ ملامحه السياسية الأولى إلى مراحله الأكثر تقدما من ناحية التنظيم و التأسيس. . وبالتالي فإن هذا الطرح يسائل تاريخا سياسيا أكثر طولا و امتدادا .
بالاضافة إلى ذلـك، تـبـنى هـذا الـطرح تـصورا أكثر اتساعا لمفهوم الدولة، حيث اعتبر الدولة المغربية كيانا سياسيا يتطور بشكل حـثيث و مـتـواصل ابـتداء من تبلوره كمركز سياسي ، فتدرجه إلى دولة سلطانية ثم دولة تـراصـفـيـة . و تـكـمـن أهمية هذا التصور في تجنبه للتصنيف التقليدي الذي كان يقرن ظهور أية أسرة حاكمة بدولة ما (الدولة الادريسية،الدولة المرابطية … الدولة العلوية …) .
– أما من الناحية الديـنـامـيـكـيـة، فـقـد اعتمد هذا الطرح على عدة مؤشرات كان الهدف منها رصد تطور الدول بالمغرب و تحديد عناصر القطيعة و الاستمرارية فيها . وتتمثل هذه المؤشرات في مايلي :
– مؤشرات ثـقـافـيـة حاول من خلالها الباحث أن يـرصد الانـعكاس الإيديولوجي للتدخلات الخارجية على تـطـور الدولة بالـمغرب و خاصة تأثير النموذج السياسي الاسـلامي والنموذج السياسي الأوربي على التغيرات التي لحقت بالدولة المغربية .
– مؤشرات اجتماعية اهـتـمـت بالأساس بـرصـد ديـالكـتـيـكـيـة الدولة و الـمـجتمع بالمغرب، والكيفية التي حاولت بـها الـدولة السـيـطرة على مجالها الاجتماعي سواء من خلال اعتماد السلطة على البنى القبلية أو من خلال تجاوز الدولة هذه البنى و تحقيق استقلاليتها.
– مؤشـرات تـنـظـيـمية، تركز فيها الاهتمام على رصد تطور الأسس التنظيمية التي قامت عليها السلطة سواء في إطار الدولة السلطانية أو الدولة التراصفية .
و قـد أدت مختلف هذه الجوانب إلى إغناء التصور الذي انتهجه بلمليح في تعامله مع إشكالية تطور الدولة بالمغرب . فـقـد نظر إلى هذا التطور كسيرورة استيعابية و ليس كسيرورة إقصائية. فالدولة المغربية، عبر تاريخها، كانت عبارة عن حلقات تندمج فيما بينها؛ بحيث أن كل تجديد كان يندرج في إطار ما هو قائم لـيتولد عنه نموذج سياسي . و أحسن مـثـال عـلى ذلك الاندماج الذي وقع بين العنصر السلطاني و العنصر الأوربي في فترة الحماية . إن مثل هذا التصور قد شكل قفزة نوعية في الدراسات التي تناولت هذه الاشكالية (سواء كانت في منظورها التاريخي أو السوسيولوجي أو حتى الاقتصادي) . إذ لأول مرة يتم تجاوز النظرة الشكلية في التعاطي مع الدولة المغربية في سيرورتها ، و التي كانت تـكـتـفـي بـدراسـة الأسر الحاكمة و كأنها دول قـائـمة بذاتها و منفصلة عن بعضها البعض، وتعويضها بنظرة أكثر عمقا تقوم بالأساس على اعتبار الدولة المغربية عبارة عن تراكمات سياسية قد تعرف بعض القفزات النوعية التي تغير من مضمونها و أشكالها لكن في إطارسيرورة سياسية مستمرة .
وقد أدى هذا التصور إلى اختزال الكثير من الأشكال السياسية (أدارسة، مرابطون، سعديون، علويون)في إطار نموذج سياسيي موحد (الدولة السلطانية)، وبالتالي تحولت كل هذه الأسر التي جعل منها الإخباريون و المؤرخون و السوسيولوجيون المغاربة مـحـطـات رئيسية للتحقيب و التصنيف السياسي عبارة فقط عن مشاريع تصب كلها في إطار تكوين و تدعـيــم و توطيد الدولة السلطانية . كما أن هذا التصور سلط الضوء أيضا ، بـشكل أكثر موضوعية ، على عـمـلـيـة الـتـلاقـي بين الدولة السلطانية و النموذج الأوربي ( الدولة -الأمة) و الانعكاسات التي ترتبت عن ذلك. فالدولة الأمة لم تقص الدولة السلطانية بل عملت على توظيفها و استيعابها لتولد نموذجا سياسيا جديدا سماه الباحث بالدولة التراصفية .
و مع كل هذه المزايا، فإن هذا الطرح تعتوره، مع ذلك ، بعض النقائص و التي ترجع إلى الأسباب التالية :
أولا : الانطلاق من المرجـعـيـة الأوربـيـة؛ حـيـث تـم تـبـنـي نموذج الدولة-الأمة في صفائها المفاهيـمـي و السياسي ومحاولة تطبيق ذلك على التاريخ السيـاسي الـمغربي ؛ الشيء الذي أدى إلى الخروج بعدة استنتاجات خاطـئـة. فـعـلى سبـيـل الـمثـال حاول الباحـث منذ بداية طرحه رصد جوانب الهشاشة السياسية للدولة السلطانية بالمغرب. و أرجع ذلك إلى التشتت السياسي الذي كان يعرفه المـغرب ما قبل الاسلام و عدم تأثير الاحـتـلال الروماني في البـنـيـان السياسي المغربي . بالاضافة إلـى ضعـف كـل الأسـر الـحـاكـمـة الـتي تـعـاقـبـت عـلـى ســدة الـحكم بالمغرب، وعدم قدرتها على جعل الدولة تتحكم في مجالها السياسي .
وهـكـذا فـإن الانطلاق من هذه المسلمة أوقـع الباحث في مزالـق علمية قاتـلة ؛ و التي يكمن أهمها في عـدم مراعـاة الـخصـوصيـة السياسية و الاجـتمـاعيـة و الـثـقـافـية الـتي تميز الدولة بالمغرب. كـمـا أن البـاحث أغـفـل بأن نـمـوذج الـدولة-الأمة ، حـتى فـي تـربـته الأوربية ، لم يكتمل إلا بالتدريج ؛ و أن كل بلد أوربي عرف فترات هـشاشته السياسية تجسدت عي عدم اختراق الدولة لمجالها السياسي ؛ فالدولة المركزية في فرنسا مثلا لم تـتـحقـق إلا مع لويس 14.
ثانيا : إن اخـتـزال تـطـورات الكيـان السـياسي في الـمغرب في نموذجين رئيسين : دولة سلطانية و دولة تراصـفيـة قـلـص من حيـويـة هـذا التطورات. إذ من حق المرء أن يتساءل ألم يعرف المغرب نماذج أخرى غـير النموذج السلطاني و النموذج التراصفي ؟؟ ولعل وعي الباحث بهذا المعطى جعله يعمد إلـى تـصنـيف الـنموذج السـلطاني إلـى نـموذجين فرعيين : النموذج الشبه امبراطوري و النموذج الباترمونيالي .
ثالثا : الـتـناقض و الغموض الذي يكتنف استخدام مصطلح الدولة التراصفية؛ فالتراصف هو عملية وصف لســيرورة سياسية وليس تجسيدا لهذه السيرورة . فإذا حق لنا أن نستخدم هذا المصطلح في تحليل عــمـلـيـة انـدمـاج الـمؤسـسـات الاستعمارية بالمؤسسات السلطانية ، أو ما سماه الباحث بالنظام الـتراصفي ، فـيـبـقى مـن غير الجائز استخدام نفس المصطلح لتعيـين الدولة التي تولدت عن هذه الـعـمـلـيـة نـظـرا لان هذا المصطلح لم يتضمنه بعد القاموس السياسي المغربي ، وكذا لان المصطلح لايتماهى و التربة السياسية التي انغرس فيها .