في الحاجة إلى إستئناف رهانات تراثنا العقلاني والفلسفي(عبد الله الطني)
سؤال إشكالي كبير ومثير للجدل طرحه الغرب، بقدر ما طرحناه نحن، منذ عصر النهضة، ولا يزال مطروحا، وهو سؤال حمال اوجه، إنه سؤال الحداثة. ومن صيغه: هل ثمة حداثة نموذجية واحدة، هي حداثة الغرب، بكل مدلولاتها وتعابيرها الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والتكنولوجية والتواصلية والمعرفية بشكل عام، ام بالإمكان الحديث عن حداثات متعددة بتعدد النماذج الحضارية والثقافية؟ هل الحداثة حصرا هي حاصل منتوج الثورة العلمية والسياسية للعصر الحديث و “عصر الأنوار”، ام أن لكل مرحلة تاريخية وحضارية حداثتها، ومن هنا يمكن الحديث أيضا عن حداثات لا حداثة واحدة.. ومقابل ذلك عن تاريخ لمفهوم الحداثة، يتطور مدلوله بتطور مرجعياته، والمحطات التاريخية المشرقة التي تجليه في تاريخ الإنسانية؟ وهل يمكن الحديث عن الثوابت والمتغيرات في هذا المفهوم؟
شخصيا، أميل الى الإختيار الثاني: اختيار المقاربة التكاملية، التعددية التي تنفتح على مختلف المحطات “الحداثية” لتاريخ الإنسانية، واحتاط كثيرا من اختيار القطيعة والتخندق في نموذج مغلق وواحد؛ لاسيما النموذج الحداثي الغربي الذي أصبح يمعن أكثر فأكثر، بدغمائيته وميكانيكيتة ورعونته السلوكية، في تدمير جوهر الكينونة الانسانية ومفهوم الانسان، وتلويث طبيعته القيمية، كما لوث طبيعة الطبيعة من حوله. واستند في اطروحتي هذه على أن مفاهيم مثل: الحداثة، العقلانية، التجديد، واعادة بناء مفهوم الإنسان.. وغيرها من المفاهيم المتعالقة معها، لا يمكن أن تستورد مثل السلع والمنجزات الصناعية والتنكولوجية، وإنما يتعين، لكي تكون فعالة وذات معنى، ان تنبع من صميم جوهرنا الحضاري والقيمي والسوسيو ثقافي، ورصيدنا المعرفي، ورؤيتنا الخاصة للعالم، في منظومة الرؤى الكونية، قبل الانفتاح على الحداثات الانسانية الأخرى، غربية كانت ام شرقية آسيوية او ما بينهما..
ومن هذا المنطلق بالذات، تكون حاجتنا اليوم، اكثر مما مضى، الى تحيين رصيدنا الفكري عموما، وعلى راسه فكرنا العقلاني الفلسفي والعلمي بوجه خاص، باعتباره، من أهم المحطات المشرقة في تاريخنا ووجودنا الحضاري، وباعتباره أيضا يحمل، في إطار مرجعياته المنتوعة، وبلغته الخاصة، أهم الرهانات التي يحملها مفهوم الحداثة عموما، وشعارات الحداثة اليوم.. رهانات مثل: – رهان إعادة بناء المفاهيم المؤطرة لكينونتنا وعلى رأسها مفهوم الإنسان ذاته، ومفاهيم التربية، والمعرفة، والسؤال، والمدنية، والسياسة، والدولة، والسلطة، والفعل بين الحق والواجب، والسعادة.. والموازنة بين النظري والعملي غي سلوكنا.. – ورهان إعادة مفهمة كل مفاهيمنا العائمة، والارتقاء بها من دوامة الفوضى المفاهيمية، والتوصل المشلول بمقتضاها، إلى حد معقول من التوافق المفاهيمي المؤسس، الذي بامكانه ان يعيد الإنسان الى الإنسان كيفما وأينما كان، ويقلص فينا هوامش الاجتثات والنسيان. – رهان الارتقاء بمفهوم الدين، او العودة به الى ينابيعه الصافية التي يمكن أن نشرب منها بعينين مغمضتين، والقطع مع مياه المصبات التي باتت تحمل الكثير من مخلفات التلويث، بمعني الانتقال من الدين بمعناه الضيق حيث يحصره فقهاء المقابر وكذا فقهاء الانظمة السياسية المستبدة.. إلى مفهومه الكوني، الذي يتماهى مع مفاهيم الحرية والديمقراطية والحق في الإختلاف الخلاق، في إطار فضاء من الحب والفهم والتفهم والإفهام.. في اتجاه اسيعاب الكينونة الانسانية في مختلف شروطها التاريخية والحضارية، وابعادها ولوينلتها وتعابيرها السوسيوثقافية، كما خلقها الله وترعاها عنايته الأزلية الأبدية في كل زمان ومكان.. – فما أحوجنا اليوم، فعلا، إلى تحين واستلهام دروس المعتزلة من أسلافنا، حول مفاهيم التوحيد، والحرية، والعدل، والمسؤولية، والإمامة السياسية بكل تجلياتها ومستوياتها.. – وما أحوجنا كذلك الى دروس ابي نصر الفارابي في المنطق، كي تستقيم عقولنا وتحاليلنا للأمور، ونتخلص من العديد من مظاهر الجدل الملتوي والسفسطة والخطابة الملغومة، وإلى كتابه في “الحروف” والألفاظ المستعملة.. ورسالته في “العقل”… كي تتضح مفاهيمنا ونتخلص من مظاهر التزييف واللعب بالمفاهيم.. والى كتابه في “السياسة المدنية..” و” آراء اهل المدينة الفاضلة” و”الملة”، لإعادة النظر فيما نسميه سلوكا مدنيا.. ودولة، وسياسة.. و”كتاب تحصيل السعادة” و “التنبيه على سبيل السعادة” و”كتاب الفصول” لاكتساب مقومات السلوك الانساني المتوازن، بين السياسة النظرية والسياسة العملية، فرديا واجتماعيا، في قطر ما وكذا في المعمور.. وما أحوجنا كذلك إلى نفض الغبار عن تركة الفقيه القاضي الفيلسوف ابن رشد، وبالخصوص، “تلخيص كتاب السياسة..” و ” الضروري في السياسة”، و “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الإتصال”، و “بداية المجتهد ونهاية المقتصد”… وباختصار نحن في حاجة الى استرجاع اشراقاتنا العقلانية، العلمية والفلسفية.. ليس من أجل الاجترار ولكن، في إطار مراكز اهتماماتنا الراهنة، ووفق شرطنا التاريخي، لإستئناف رهاناتها ومضمراتها الحداثية التي لم تحدث بعد، مع الأسف، في مجتمعنا بالمفهوم الخلاق، علما بأن تلك العناصر المشرقة من تراثنا، قد ساهمت إلى حد كبير في بناء رهانات التنوير الغربي باعتراف العديد من رموز ذلك التنوير.