في الحاجة إلى الأدب (نادية لوطفي)_3_
- الأدب والفقه:
الفقه علم من العلوم الإسلامية التي ظهرت و تطورت استجابة لحاجيات المسلمين وهو علم رصين يعبر عن الهوية الإسلامية والمرجعية الفكرية للأمة التي تدين بدين الإسلام، وهو متعدي لذلك أيضا، ولعته التي أسست له هلي اللغة العربية بمختلف فنونها، لذلك نجد في بطون المدونات الفقهية والكتب الفقهية ذلك الطابع الأدبي، برز ذلك في مصنفات الفقهاء الذين نجد غالبيتهم أبدعوا في مجالات مختلفة من الأدب كالشعر مثلا فلم يشغلهم الإهتمام بتفريع المسائل والفتوى في النوازل عن الإسهام بحظ في الأدب، والأئمة المجتهدون أصحاب المذاهب الفقهية كالإمام مالك ابن أنس والشافعي وغيرهم لم تخلو تصانيفهم من تلك الفسحة الأدبية هذا فضلا عن الأثر الأدبي في لغتهم وأسايبهم التعبيرية.
قال مالك: هي القناعة لا أرضى بها بدلا فيها النعيــــم وفيـــها راحة البدن
وانظر لمن ملك الدنيا أجمعها هل فاز منها بغير اللحد والكفن.
وقال الشافعي محمد ابن إدريس:
لولا الشعر بالعلماء يزري لكنت اليوم أشعر من لبيد
وعبد الله ابن المبارك والقاضي عبد الوهاب من أعلام مذهب مالك ومن شعراء الأندلس إمام أهل الظاهر بعد مؤسس هذا المذهب داود الظاهري المشهور ابن حزم، حيث ألف ابن حزم كتاب طوق الحمامة في الحب وصفاته، ومعانيه وفلسفته، و المحبين وما يعرض لهم وأحوالهم وأخبارهم وأبو الوليد الباجي وكان على مذهب ملك، وأبو بكر ابن العربي المعافري الإشبيلي والقاضي عياض اليحصبي وأبو بكر بان زهر طبيب من أهل بين كلهم أطباء كما ذكر عبد الله كنون، وكان مشاركا في علم الفقه وله معرفة واسعة بالأدب و العربية قال كنون” ويظهر أن تمكنه من الطب واللغة معا كونا فيه إحساسا دقيقا بتشخيص الحالة التي يريد وصفها واختيار اللفظ المطاب لها مطابقة فنية، “[1] وغيرهم كثير ممن كان لهم الأثر في توضيف الأدب في تصانيفهم.
وقد أورد عبد الله كنون عدة نماذج كأبا الفضل بن النحوي الفقيه له تصانيف أدبية منها قصيدة المنفرجة : اشتدي أزمة تنفرجي قد آذن صبحك بالبلج “وأدب الفقهاء مادة خصبة للدراسة، وباب واسع يتضمن غنونا وأغراضا مختلفة، بعضها مما يقل نظيره في أدب وغيرهم، فهو يشتمل على شعر وجداني من الطبقة الرفيعة يعبر عن أعمق المشاعر الإنسانية، وأرق العواطف القلبية، ومه شعر فلسفي يتناول مطالب النفس العليا ويتحدث عن الروح ووعالمها الفسيح، ومشكلة الوجود و الحقيقة الأزلية وما إلى ذلك، أما الأخلاق والآداب، شرعية وسياسية، فأدب الفقهاء هو منبعها الذي لا ينضب، ومنجمها الذي يحتوي على ثروة طائلة لا نفاذ لها، ويمدح الفقهاء ويرثون كغيرهم من الأدباء، وربما هجوا ولكنهم لا يتخذون ذلك حرفة كما يفعل غال الأدباء، على أن مدحهم لا يكون لطلب دنيا ونيل جائزة من صاحب ولاية أو سلطان، إنهم كانوا لا يرغبون في القرب من الملوك ولا يتملقونهم إلا من شذ منهم ولذلك فإن أكثر مدحهم للرسول صلى الله عليه وسلم”[2] “وتكتسي أمداحهم حلة خاصة من السمو الروحي لصدورها عن إيمان صادق بالممدوح وكمالاته النفسية التي لا تشبه أوصاف الممدوحين العاديين، ومن ثم فإن كثيرا من أمداحهم يتغنى بها ويكون لها من القبول ما ليس لأمداح فحول الشعراء وحين تكون هذه الأمداح في تمجيد الذات العلية و التغني بالحب الإلهي فإنها تكتسب فوق ذلك صفة القداسة لدى جماعة المتصوفين”[3]“وإذا تجاوزنا عهد الصحابة إلى من بعدهم من التابعين والأئمة المجتهدين فإننا نجد بينهم الكثير من الفقهاء الذين قالوا الشعر الجيد وبذوا في بعض المعاني الفحول من الشعراء بل إننا نجد من هولاء الفقهاء من لم يسع النقاد والمؤلفين في الأدب إلا أن يعترفوا بموهبتهم الشعرية ويعدوهم في جملة المتوفقيه “.[4]
- الأدب واللغة :
وكذلك علماء اللغة كصاحب كتاب الجمهرة في اللغة أبو بكر إبن دريد، والزمخشري إمام النحو واللغة والبيان والتفسير، ومن النحاة أبو حيان الغرناطي هؤلاء ممن نظمو الشعر واهتموا بالأدب اهتمام منتج فكان لابد لذلك أثر في سائر علومهم المختلفة، وقد لا يكون مطلوب من العالم أو الباحث أو المفكر أو المثقف الإهتمام بالأدب من حيث الإبداع والإنتاج بقدر ما يطلب منه على الأقل الإطلاع والإلمام والإكتساب، لما يكسبه الأدب بمختلف ألوانه وأشكاله من قوة لغوية وسلامة خطابية وذكاء وجداني ولين في الطباع وبعد عن الوحشة والغلطة وما يجر إليها من طبائع الشدة.
- الأدب والفلسفة:
إن الفلسفة والأدب ممتزجان امتزاجا معقدا، هكذا كانا على الأقل إلى أن أقام التاريخ بينهما نوعا من القسمة الرسمية، تقع هذه الفترة في أواخر القرن الثامن عشر عندما بدأ لفظ الأدب يستعمل بدلالته الحديثة، شهد”[5] “كان الحكيم في ما مضى فيلسوفا وشاعرا وموسيقيا، لقد انحطت هذه المواهب بانفصالها بعضها عن بعض، دائرة الفلسفة ضاقت، والشعر افتقد الأفكار، كما افتقدت الأناشيد القوة والعزم والحكمة التي حرمت من هذه الأعضاء لم تعد تسمع الشعوب بالسحر ذاته”[6]“إن القول بأن” الأدب يتضمن أفكارا فلسفية يمكن استخراجها من النسيج الأدبي زدراستها دراسة مستقلة ، وأم الفلسفة تتضمن عناصر أدبية يمكن أ تدرس علاقتها بالمضمون الفلسفي حصر المعنى ، كما تدرس خصائصها على ضوء أحد المناهج الفلسفية، ولكن هذه نظرة سطحية تبسيطية تسيء في آن واحد إلى الأدب والفلسفة، وهي بطبيعة الحال ليست أطروحة المؤلف، ذلك أ العلاقة بين الأدب والفلسفة أكثر تعقيدا والتباسا، فهما خلال فترة تاريخية طويلة لم يكونا منفصلين”[7] لقد حاول هذا الكاتب أن يجيب على عدة أسئلة تتعلق بذلك التداخل بين الفلسفة والأدب، متجاوزا تلك العلاقة السطحية التي تبين صلى الوصل بينهما، مبينا حاجة الفلسفة وباقي العلوم إلى الأدب، [8]
و يعتبر سيد قطب من أكثر من اهتموا بالأدب من داخل التصور الإسلامي ويبدوا ذالك بارزا في طبيعة كتاباته وأسلوبه التعبيري، و تتميز كاتبته بنوع من الغنى اللغوي والسلاسة والجمالية وهذا نص من كلامه يبين ذلك يقول “الحياة في ظلال القرآن نعمة، نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها، نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه، الحمد لله.. لقد عشت أسمع الله سبحانه يتحدث إليّ بهذا القرآن، أنا العبد القليل الصغير، أيّ تكريم للإنسان هذا التكريم العلوي الجليل؟ عشت أتملّى في ظلال القرآن ذلك التصور الكامل الشامل الرفيع النظيف للوجود، لغاية الوجود كله، وغاية الوجود الإنساني، وأقيس إليه تصورات الجاهلية التي تعيش فيها البشرية، وأتساءل: كيف تعيش البشرية في الدرك الهابط، وفي الظلام البهيم، وعندها ذلك المرتع الزكي، وذلك النور الوضيء؟ عشت في ظلال القرآن أحسّ التناسق الجميل بين حركة الإنسان كما يريدها الله، وحركة هذا الكون الذي أبدعه الله، ثم أنظر فأرى التخبّط الذي تعانيه البشرية في انحرافها عن السنن الكونية، وأقول في نفسي: أيُّ شيطان لئيم هذا الذي يقود خطاها إلى هذا الجحيم؟ عشت في ظلال القرآن أرى الوجود أكبر بكثير من ظاهره المشهود، أكبر في حقيقته وفي تعدّد جوانبه، إنه عالم الغيب والشهادة، لا عالم الشهادة وحده، إنه الدنيا والآخرة لا هذه الدنيا وحدها، الموت ليس نهاية الرحلة، إنما هو مرحلة في الطريق، وما يناله إنسان من شيء في هذه الأرض إنما هو قسط من ذلك النصيب، وأن المرحلة التي يقطعها على ظهر هذا الكوكب إنما هي رحلة في كون حي مأنوس، وعالم صديق ودود، كون ذي روح تتلقى وتستجيب، وتتجه إلى الخالق الواحد الذي تتجه إليه روح المؤمن في خشوع”[9]
الخــــــــــاتمـــــــة :
إن الحاجة إلى الأدب حاجتين، الحاجة إليه كخلق كفضيلة يحلى بها الطالب ويتخلق بها طالب العلم، فيكون ذوا أدب في مجالس العلم، وقد كان العلماء المعلومون المربون يعطون لنصيب الأوفر للأدب كخلق قبل العلم كانت والدة الإمام الشافعي تقول له” فليس بعيد معنى مفهوم الآداب كقيم وأخلاق عن مفهوم الأدب كفنون وأساليب فأحدهما هو نتاج للآخر، إن الأدب بما هو فضيلة وخلق وسلوك أجتماعي يتطبع به الأفراد وتتميز به المجتمعات لا يتأتى إلا من روافد تلك الآداب والتي يشكل الأدب أحد أهمها.
ثم الحاجة إليه كمكون فكري ومجال تكويني لاغنى عنه في برامج التربية والتعليم والتتقيف، وسياقات التواصل والإعلام ولذالك لابد من التنبيه إلى وضعيته الحالية التي يشهدها، نقدا لها في محاولة لأنقاد ما يمكن إنقادة، وإعادة الإعتبار للأدب ومن خلاله إعادة الإعتبار للعلوم الإنسانية ومكانتها وأهميتها، وتصحيح تلك النضرة التنقيصية والإختزالية التي سادت حولها، عموما وفي البرامج التربوية والتعليمة على الخصوص باعتبارها المسؤولة عن إعداد الأجيال القادمة وبالتالي مسؤولة عن حالة العلوم وما يتعلق بمستقبلها وطبيعة استخدامها، وهذا التنبيه لابد أن يأتي في سياق رؤية التكامل المعرفي التي تعدف إلى محاولة تحقيق التوازن بين العلوم والمعارف بما يخدم مستقبل البشرية وما يرقى بالإنسانية للنفع والخيرية والنجاة من الأخطار التي تهدد الإنسان على كوكب الأرض.
[1] عبدالله كنون، أدب الفقهاء، مرجع سابق ص 78.
[2] عبدالله كنون، أدب الفقهاء، مرجع سابق ص 14.
[3] نفس المصدر، ص 15 .
[4] نفس المصدر، ص 23.
[5] بيار ماشيري، بم يفكر الأدب تطبيقات في الفلسفة الأدبية، ترجمة جوزيف شريم،المنظمة العربية للترجمة طبعة 2009 بيروت ص 22, 23.
[6] نفس المصدر ، ص 22, 23.
[7] بيار ماشيري، بم يفكر الأدب تطبيقات في الفلسفة الأدبية،مرجع سابق ص 11.
[8] سيد علي بلحسن، أدب الفكر وفكر الأدب، الماهر للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 2018.
[9] السلام العالمي والإسلام، سيد قطب، مكتبة وهبة، ط5/ 1966.