في الحاجة إلى بناء نظرية أخلاقية أصيلة -2- هشام لعشوش
“البعد المقاصدي عند الشاطبي بُعد أخلاقي بالأساس
الناظر في المدونة المقاصدية، يجد نفسه أمام تراث علمي ومنهجي عظيم المبنى غزير الفائدة والمعنى، ربط بين أصول التشريع وفروعه في مجالاته المتعددة؛ من العادات والعبادات، وفق تناغم وتساوق بديع، بحيث يخدم بعضهما بعضا ويؤول بعضهما إلى بعض، ويستدعي بعضهما البعض الآخر.
لقد تسنم مفهوم المقاصد وٱصطف ضمن دائرة الاهتمامات ذات الأولوية البحثية في قضايا العلوم الإسلامية عامة وعلم أصول الفقه خاصة، بما قدمه من تصورات وحدود عن لباب الحكم الشرعي في أبعاده الفلسفية والأخلاقية ممثلة في” المصالح “التي عدها الفيلسوف طه عبد الرحمن “القيمة الأخلاقية الكبرى”.
في مستهل هذه التجربة العلمية، وبين يدي هذه الغاية العظيمة-بناء نظرية أخلاقية أصيلة-، نرى أنه من ضروريات الترتيب المنهجي لذلك؛ بيان عمق وأصالة العلاقة المطردة بين الأخلاق وبين نسق العلوم الإسلامية، استنادا بالأساس إلى الإمكانات الهائلة التي تتيحها المادة المقاصدية؛ لأنها أعادت الاعتبار للبعد الأخلاقي في مباحث الدرس الأصولي، بعد ما كان وجوده محتشما في التراث الأصولي القديم.
فقد كانت مقاصد الشريعة وما تزال، فتحا عظيما في تاريخ العلوم الإسلامية، وعلامة فارقة امتدت آثارها واتسعت مساحة الاهتمام بها والإفادة منها، حتى عدت من الأسس المنهجية والمعرفية التي حفظت للقيم الإسلامية عناصر الزيال والتفرد.
وفي هذا الصدد، شكلت المدونة المقاصدية عند الإمام الشاطبي عبر تمثلاتها المعرفية والمنهجية، مادة سخية جدا، يمكن أن تسهم في الإجابة عن سؤال الأخلاق الذي ظل رهينا في كثير من انشغالاته -خلال أكثر من قرنين من الزمان- للفلسفات والمدارس الفكرية الدخيلة.
لقد رتب الشاطبي مكارم الأخلاق وجعلها في دائرة التحسينات، وهي مرتبة أقل من الضروريات والحاجيات، مبينا أن التحسينات ينصرف معناها إلى “الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق”([1]).
هو ترتيب -بحسب النظرة الأولى- يعطي تصورا مغايرا لحقيقة منزلة مكارم الأخلاق في الشريعة الإسلامية؛ كونها خارجة عن دائرة اهتماماتها الأساسية، بيد أن هذا التصور يتداعى وتنكسر علله، حين نجد الشاطبي يبين أن “الشريعة ما جاءت إلا لتتمم مكارم الأخلاق” ([2])، وحين يؤكد أنها “وضعت لمصالح العباد “([3]).
وفي الواقع، لم يفرد الشاطبي لموضوع الأخلاق مبحثا أو فصلا خاصا، وإنما جاءت نظريته عن القيم الأخلاقية مبثوثة في كافة الأبواب، متناثرة في نصوصه وفي سياق تحليله واستدلالاته.
ذلك أنه لا يعد الأخلاق غاية في حد ذاتها، بل هي وسيلة يتوسل بها لتحقيق أصول ضرورية، تحقق مصالح الدين والدنيا الأساسية التي يترتب خلل كبير على الإخلال بها، وهذه الحقوق الخمسة هي التي بينها الشرع وعرفت بالكليات.
إن تقسيم المقاصد عند الشاطبي، اقتضته غاية إصلاح الممارسات الفردية والجماعية الخاطئة التي أضعفت بنية المجتمع المسلم، وجعلته نهبا للأطماع، لذلك جعل الأخلاق ضمن المقاصد التحسينية التي اهتمت بالمعاملات والعادات، فسعى من خلالها إلى تخليق الحياة العامة، وتجاوز أسيجة الفساد والشقاق والنزاع التي أضعفت أحوال المسلمين.
فقد حرص الشاطبي وهو يقسم المقاصد ويرتبها إلى ثلاث طبقات -طبقة الضروريات والحاجيات ثم التحسينيات- على أن يجعل مجموع الحاجيات والتحسينيات ينتهض “أن يكون كل منها كفرد من أفراد الضروريات، وذلك أن كمال الضروريات من حيث هي ضروريات، إنما يحسن موقعه حيث يكون فيها على المكلف سعة وبسطة “([4]).
فالمقاصد الضرورية التي اتجهت إلى حفظ الدين “من جانب الوجود، كالإيمان والنطق بالشهادتين، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وما أشبه ذلك”([5])، فهذه المقاصد بالإضافة إلى سعيها لانتزاع الممارسات التعبدية مما سادها من الدجل والخرافة، فإنها عبرت كذلك عن غاياتها الكبرى في تحقيق النموذج الإنساني الصالح، بتغلغل مكارم الأخلاق في مختلف أصول وفروع الشريعة .
والشاطبي حين يتكلم عن القيم الأخلاقية التي يجمل بالمؤمن الأخذ بها، يتصورها في انسجام مع مصالح الشريعة محققة لها، غير متنافية معها ولا متضادة، حتى تتحقق خاصية كمال الشريعة وتوازنها، ومن جهة أخرى حتى يتجنب المكلف مغبة الوقوع في الحرج الذي دفعته الشريعة بتوجيهاتها وإجراءاتها، لأنه حيث يقع الحرج تتزلزل القيم، ولهذا كانت القاعدة أن الحرج مرفوع حتى لا تضطر النفس للقيام بما لا يسوغ في ميزان الشريعة والأخلاق، “ولا يبقى معها خصال معاني العادات ومكارم الأخلاق موفرة الفصول مكملة الأطراف. وهذا ما لا يستحسنه أهل العقول، بل يتعارض مع الشريعة والرسالة الإسلامية التي بنيت على التكليف بالوسع، وعلى رفع الحرج وعلى مكارم الأخلاق”([6]).
وفي المقال اللاحق، نتحدث بإذن الله تعالى عن: اعتبار البعدين السلوكي والعقلاني وأثرهما في بناء المقاصد الأخلاقية عند الشاطبي