في الحاجة إلى بناء نظرية أخلاقية أصيلة -4- (هشام لعشوش)
-4- “الاستقراء المعنوي”
وسيلة الشاطبي لبناء صحيح الاعتقاد والفقه والأخلاق
مقاصد الشريعة كما قعد لها الإمام الشاطبي هي آليه منهجية تتغيى في جوهرها تجاوز حالة الارتباك التي طبعت مباحث علم أصول الفقه، ذلك أن هيمنة الانشغالات الكلامية أفضت الى حيرة الدرس الأصولي، وتخبطه بين ما هو من صلبه وما هو من ملحه وما ليس من صلبه ولا من ملحه.
لقد أدرك الإمام الشاطبي خطورة هذا التخبط وآثار هذه الحيرة، فعمد إلى بناء النظرية المقاصدية، ليقوده سعيه في ذلك إلى اختيار منهج “الاستقراء” وجعله الدعامة المركزية الأهم، والعدة المنهجية الأساسية التي اعتمدها في إعادة صياغة قواعد النظر الأصولي في فهم الخطاب الشرعي، قال في المقدمة الأولى من كتابه الموافقات: ” إن أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية، والدليل على ذلك أنها راجعة إلى كليات الشريعة، وما كان كذلك فهو قطعي، وبيان الأول ظاهر بالاستقراء المفيد للقطع، وبيان الثاني من أوجه: الاستقراء الكلي من أدلة الشريعة، و ذلك قطعي أيضا، ولا ثالث لهذين إلا المجموع منهما، والمؤلف من القطعيات قطعي، وذلك أصول الفقه”([1]).
أضحت المادة الأصولية مع الشاطبي إذن مادة تفيد القطع لأنها استندت إلى استقراء أدلة الشرع استقراء ينطلق من الجزئي وصولا إلى الكلي، كما استندت إلى أحكام العقل الثلاثة :الوجوب والجواز والاستحالة([2]).
لقد مكن منهج الاستقراء الإمام من تحصيل قدرة كبيرة على المزاوجة بين النقل والعقل، كما مكنه من تبصر أدلة الشريعة وغاياتها ومآلاتها بين ما هو كائن وما يجب أن يكون.
وهما خطوتان منهجيتان شكلتا في استدعاء بعضهما البعض ترادف لحظتين؛ “لحظة الكشف عن أخطاء المعرفة والكشف عن فساد الواقع، ثم لحظة البناء وهو ما تم بواسطة تحديد الموضوع وضبط الغاية، فكان الموضوع هو العمل، والغاية هي صلاح المكلف في الدارين”([3]).
فالعملية الاستقرائية مجهود اجتهادي يمتد إلى مساحة اعتبارية في إعمال الفكر وبذل الوسع واستجماع المعطيات، تبدأ ببناء الكليات انطلاقا من تقص للجزئيات والفروع، إذ إن “تلقي العلم الكلي إنما هو من عرض الجزئيات واستقرائها”([4])، وتصل إلى ضبط مآلات الأفعال ومدى تحقيقها لمقاصدها المرعية وفق تراتبية منهجية تداخلت فيها ضوابط النظر بمآلات الفعل في دائرة التكليف الإنساني، بين مصلحة راجحة ومفسدة مرجوحة.
إن حرص الشاطبي على جعل كليات الشريعة كليات قطعية، سيكون العامل الأساس لقوله بأن الاستقراء بنوعيه التام والناقص يفيدان القطع، مؤكدا أن “تخلف بعض الجزئيات عن مقتضى الكلي لا يخرجه عن كونه كليا”([5]).
لقد أقر الشاطبي أن غالبية الاستقراء ناقص، وأرجع سبب ذلك الى أن الجزئيات المستقرأة ليست على وجه واحد، بل وجوه متعددة “قد يدركها العقل و قد لا يدركها، وإذا أدركها فقد يدركها بنسبة إلى حال دون حال، أو زمان دون زمان، أو عادة دون عادة؛ فيكون اعتبارها على الإطلاق خرما للقاعدة نفسها…… وأيضا فقد يعتبر الشارع من ذلك ما لا تدركه العقول إلا بالنص عليه، وهو أكثر ما دلت عليه الشريعة في الجزئيات”([6]).
فلا خلاف على قطعية دلالة الاستقراء التام كونه جاء مستوعبا جميع أجزاء القضية التي هي موضوع الدراسة، حيث أحاط بها دراسة وتحليلا، وإن كان هذا النوع كذلك ترد عليه مجموعة من التعقيبات والملحوظات التي تكفلت ببسطها دراسات أخرى([7]).
أما الاستقراء الناقص الذي يعرف بأنه انتقال من “جزئيات محدودة إلى نتيجة كلية تشمل تلك المقدمات وزيادة”([8])، فقد اتفق معظم الأصوليين والمناطقة على أنه يفيد الظن([9])، خالفهم في ذلك الشاطبي وانفرد بابتداع مفهوم جديد لهذا الاستقراء؛ وهو (الاستقراء المعنوي)، مستعينا في وضع قواعده ومستلهما مرتكزاته من ضوابط التواتر المعنوي الذي يدل على تغاير الألفاظ مع الاشتراك في معنى كلي.
شرع الشاطبي في تأسيس تصور جديد للاستقراء المعنوي، والذي “لا يثبت بدليل خاص، بل بأدلة منضاف بعضها إلى بعض، مختلفة الأغراض، بحيث ينتظم من مجموعها أمر واحد تجتمع عليه تلك الأدلة، على حد ما ثبت عند العامة جود حاتم و شجاعة علي رضي الله عنه”([10]).
هو مفهوم جديد متفرد “راعى فيه خصوصية المفردات القائمة في الكلية دون حدوث خرم هذه الأخيرة، إذ الأدلة الشرعية لا تفيد القطع بآحادها الظنية، إلا أن التواثر في اجتماع هذه الآحاد الظنية يفيد القطع في العلم”([11])، شأنه في ذلك شأن التواتر المعنوي الذي تنتقل فيه دلالة أخبار الآحاد من الظن إلى القطع؛ بتظافر الأخبار كجود حاتم وشجاعة علي.
إن البحث في دلالة الاستقراء المعنوي، يحيلنا على دلالة وصفية فاعلة في الجمع بين الفعل وبين قيمة الفعل، ثم بين مقتضى الحكم الشرعي وبين غاياته المرجوه، وكذلك بين المقاصد الضرورية والحاجية والتحسينية التي أسسها الاستقراء وبين تمثلاتها الغائية ومآلاتها المتحققة.
قاعدة الاستقراء المعنوي جعلها الشاطبي دعامة منهجية أساسية، انطلق منها لإعادة صياغة أصول الفقه وتأسيس قواعده وفق منطق إصلاحي، هدف إلى بناء تصورات كلية لصحيح الاعتقاد والتشريع والسلوك، تجاوزت أخلاقية النظر المتجرد كما هي عند أرسطو وكشفت عن أخلاقية النظر والفعل معا، عبر البحث في آليات وسبل التنزيل العملي لهذه المقتضيات الأخلاقية في متغيرات الأحوال والوقائع.
وهذا ما يدل بوضوح على إمكانية انفكاك التصور الأخلاقي عن نزعته المتعالية والصورية، وتخلصه كذلك من غلبة الهوى واتباع الظن، لأنه انبنى على قواعد ومناهج محصلة للقطع، فصار كما الشريعة “علما من جملة العلوم ورسما كسائر الرسوم”([12])، وفق قواعد علمية “مطردة عامة، ثابثة غير زائلة ولا متبدلة، وحاكمة غير محكوم عليها، وهذه خواص الكليات العقلية”([13]) .
وفي المقال اللاحق نتحدث بإذن الله تعالى عن النظرية المقاصدية عند الإمام الشاطبي، كونها نظرية مصلحية أخلاقية بالأساس