في السرديات الاسرائيلية(خالد البورقادي)
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا ومولانا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد..
فعلى الرغم من تأكيد ابن تيمية أن الروايات الإسرائية للاستشهاد وليس للاعتقاد في فتاويه الكبرى، إلا أن واقع تتبع هذه السرديات يؤكد أنها وجدت طريقها لنسيج الثقافة الإسلامية عبر الممارسة الفعلية لعلم التفسير منذ زمن بعيد، هذا التسرب الذي سيكون له أثره الكبير في تشكيل العقل المسلم، وذلك بفعل استغناء فعل السرد “الساحر” على الأسانيد واحتفاظه بالمتون فقط، فتداخلت _في كثير من الأحايين_ المتون في المتون وأدرجت النصوص في النصوص حتى صارت مع الزمن نصا واحدا.
يعود أصل هذا النوع من الرواية في ممارستنا التراثية إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم في البخاري في كتاب الأنبياء، حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم:”بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج”، وقد دلت الخبرة التفسيرية التاريخية أن فهم هذه الرخصة أو الإجازة في الرواية عن بني إسرائيل كانت موضوعا إشكاليا أفرز تمييزات “فقهية” بمنزلة قواعد الرواية مما يرجع إلى ضبط “المحتوى” والتحقق من “المضمون” في علاقته بمقررات الدين وأصوله، ولهذا كان التحرج والنقد يطال ما يدخل في مسمى “الغرائب” التي لا أصل لها من منقول أو معقول مثلما فعل رشيد رضا رحمه الله وغيره، خصوصا إذا علم تنبيه القرآن الكريم لمسألة تحريف اليهود لكتبهم، ومن ذلك ما جاءت به سورة المائدة”يحرفون الكلم عن مواضعه، ونسوا حظا مما ذكروا به”صدق الله العظيم.
في هذا الكتاب الذي نقدمه في مركز ابن غازي للأبحاث والدراسات الاستراتيجية للباحث خالد البورقادي، عمل الباحث على وضع إطار علمي للموضوع في سياق علاقة فن القصص بعلم التفسير والقدر الضروري منه، كما بين مذاهب المفسرين في تفسير مجملات القصص القرآني، وطرقهم في التعامل مع المسكوت عنه أو المطوي في غياب آثار صحيحة تسعف في رفع الإبهام عن مسائل وقضايا من صميم التاريخ، وخاصة تاريخ الأنبياء مع أقوامهم مما لم يرد في الصحيح ما يجليه ويوضحه.
كما أنه من حسنات هذا العمل الذي يتميز بحس نقدي واضح في معالجته للمعطيات، هو أنه أماط اللثام بطريقة علمية بعيدا عن الإثارة التي تعرض لها تناول هذا الموضوع من قبل كثيرين، فرصد منهج عَلَمَيْن من أعلام التفسير في الغرب الإسلامي، كان لكل واحد منهما طريقته في التعاطي مع السرديات الإسرائيلية، وإن اشتركا في بعض الوجوه، ابن جزي وابن عطية الغرناطي.
يخبرنا الدكتور خالد البورقادي الذي اهتم بمسألة تتبع المنهج إجراء واستثمارا كيف أن ابن عطية طبق منهجه الذي اختطه، فنجده في مواضع كثيرة من تفسيره حينما يذكر بعض الإسرائيليات، يختصرها بتجريدها من أسانيدها، ويكتفي بذكر روايتها مختصرة من غير تطويل. أو بالإشارة إليها من غير ذكرها، ويعقب بعد ذلك عليها إما بالنقد والرد أو بالتضعيف لأنها لينة الأسانيد أو قليلة الثبوت.
وقد كان من نتائج هذا العمل المقارن بين الإمامين_أيضا_ أن ابن جزي كان أكثر اختصارا وإقلالا من رواية الإسرائيليات، فقد أعرض عن ذكر الكثير منها، بينما لم يستطع ابن عطية التخلص منها، ربما لأن رواية الإسرائيليات عند المفسرين حتى ذلك الوقت –عصر ابن عطية- كانت تعتبر شيئا ضروريا لبيان المجمل، وشرح المطوي في آيات القصص من القرآن الكريم. فرواية الإسرائيليات في كتب التفسير كانت قدرا مشتركا بين الجميع إلى عصر ابن عطية.
إن مشكلة السرديات الإسرائيلية كما يعلمها المختصون لا تتوقف عند حدود مبررات إجرائها واستثمارها في تفسير القرآن الكريم استئناسا في القديم، وإنما في ما مارسته وما تزال تمارسه من “تضليل” وتشويه” لصورة الإسلام المعرفية، حين تكون نافذة يطلع من خلالها غير المسلمين على الإسلام، فيخلطون بالقصد أو بالسهو بين “الخرافات” و”الأراجيف” وبين صحيح الإسلام، إذ يستوي عندهم الغث بالسمين، فيقفون على هلوسات وقصص ومُغَرَّبَات لا يقرها عقل ولا نقل عن أسباب حدوث ظواهر من قبيل الرعد والبرق والخسوف والكسوف ونزول الأمطار وهبوب الأعاصيروأصل الخليقة مما يعود بالضرر _في عصر العلم_ على صورة الإسلام والمسلمين على حد سواء، ومما يُحتاج معه اليوم لإجراء نقد لهذه السرديات ولتوظيفها لدى المفسرين والقصاصين على حد سواء.
في الختام نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل هذا العمل في ميزان حسنات الدكتور خالد البورقادي، وأن ينفع به عموم المهتمين بتراث الغرب الإسلامي، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.