في العلاقة بين المصطلح الأصولي والدرس الفقهي دراسة تطبيقية للمؤول في المذهب المالكي:(عبد الإلاه بالقاري) _2_
المبحث الثاني: دليل التأويل:
لا يسوغ العدول عن الظاهر بغير دليل؛ إذ اللفظ لا يمكن صرفه عن ظاهره الراجح إلى الاحتمال الخفي المرجوح إلا إذا عضد ذلك الاحتمال دليل قوي يصيره راجحا على الظاهر. وتظهر أهمية دليل التأويل في أمور عديدة، نذكر منها:
أنه يميز التأويل الصحيح عن التأويل المطلق وهو الشامل للصحيح والباطل، وقد أشار إلى هذا الآمدي قي سياق اعتراضه على تعريف الغزالي لمفهوم التأويل، ولذلك نص رحمه الله أن التأويل المطلق هو: “تأويل مع قطع النظر عن الصحة والبطلان، وهو حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر منه، مع احتماله له.”[1] أما التأويل المقبول الصحيح فهو “حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر منه مع احتماله له بدليل يعضده”[2].
دليل التأويل له أثر واضح في بيان رتبة التأويل، قال الإمام الجويني: “المؤول يعتبر بما يعضد التأويل به، فإن كان ظهور المؤول زائدا على ظهور ما عضد التأويل به فالتأويل مردود، وإن كان ما عضد التأويل به أظهر فالتأويل صائغ معمول به، وإن استويا وقع ذلك في رتبة التعارض والشرط استواء رتبة المؤول وما عضد التأويل به فإن كان مرتبة المؤول مقدمة، فالتأويل مردود”[3].
وكهذا، يتبين أن التأويل قد يكون سائغا معمولا به، وقد يكون في مرتبة التعارض، وقد يكون في مرتبة أدنى، فيكون تأويلا مردودا لا يعمل به، وكلّ مرتبة من هذه المراتب لا تتميز عن غيرها إلا بدليل التأويل. وحاصل الأمر، فالغرض من دليل التأويل، أنه إذا انضم إلى احتمال اللفظ المؤوَّل اعتضد أحدهما بالآخر واستوليا على الظاهر، وقدما عليه.
وقد عني الأصوليون ببيان أنواع الدليل، فذكروا أنه قد يكون قرينة، أو ظاهرا آخر أقوى منه، أو قياسا، وهذه كلها تصلح أن تكون أدلة تجبر ما في الاحتمال من ضعف، وتصلح أن تكون مرجحة له ليقوى على الظاهر، ويقدّم عليه، قال الغزالي: “وقد يكون ذلك الدليل قرينة وقد يكون قياسا وقد يكون ظاهرا آخر أقوى منه”[4]، وقد وسّع الدكتور فتحي الدريني أدلة التأويل، حيث قال بعد كلام: “وهذه الأدلة ينبغي أن تكون ثابتة نصا، أو أرشد الشارع إلى أنها حجة في التشريع.. كالإجماع، أو مستمدة من روح النص، أو حكمة تشريعه، أو نهض بحجيتها سنن الشارع في التشريع، من وجوب إناطة الحكم بالمصلحة الراجحة، وأكدها الاجتهاد بالرأي في عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم رضوان الله عليهم أجمعين”[5].
وهكذا، يتضح أن دليل التأويل أنواع، أقتصر على ذكر بعضها مع الثمثيل بمثال واحد لكل دليل على سبيل اختصار:
النص: ومثاله تحريم الدم الوارد في قوله تعالى (حرمت عليكم الميتة والدم)[6]، فقد ذهب الجمهور إلى أن إطلاق الدم الوارد في قوله تعالى (إنما حرم عليكم الميتة والدم)[7]، مقيد بالدم المسفوح في قوله تعالى (إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا)[8]، وعليه فالدم المحرم هو الدم المسفوح لا مطلق الدم.
فهذه الآية؛ بينت أن المراد بالدم في الآية التي قبلها هو الدم المسفوح، وهي نص في ذلك، وعليه يصلح هذا النص أن يتقوى به احتمال عدم إرادة الإطلاق في الآية التي قبلها.
الإجماع: ومثاله قوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع)[9]، فظاهر الآية أنها تعم الرجال والنساء، لكن دليل الإجماع أخرج النساء من عموم النص، وعليه فلا تجب الجمعة على المرأة[10].
القياس: ومثاله قوله تعالى في كفارة القتل الخطإ (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله)[11]، قال ابن بدران: “إن ترك الله سبحانه وتعالى ذكر الإطعام في كفارة القتل ظاهر في عدم وجوبه، إذ لو وجب لذكره كما ذكر التحرير والصيام، هذا مع احتمال أن يكون واجبا مسكوتا عنه يستخرجه المجتهدون، ثم رأينا إثبات الإطعام في كفارة القتل بالقياس على إثباته في كفارة الظهار والصيام واليمين متجها؛ لأن الكفارات حقوق الله تعالى وحكم الله تعالى وحكم الامتثال واحد، فثبوت الإطعام في تلك الكفارات تنبيه على ثبوته في كفارة القتل”[12].
حكمة التشريع: عرفها الدريني قائلا: “هي الغرض أو المصلحة الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية أو الخلقية التي من أجلها شرع حكم النص، فحيثما تحققت هذه الحكمة وجب تطبيق الحكم غالبا”[13].
ومن أمثلة التأويل بها، تأويل لفظ “الشاة “[14] في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “في أربعين شاة شاة”[15] بالقيمة.
إذ إن الحديث صريح في وجوب إخراج شاة عن كل أربعين شاة زكاة، إلا أن فقهاء الحنفية أجازوا إخراج القيمة المالية للشاة، وعللوا ذلك بأن حكمة تشريع الزكاة سد خلة الفقراء، والقيمة المالية قد تكون أكثر فائدة من الشاة بعينها، وهكذا استنبط الحنفية حكمة التشريع من النص وأولوا الحكم من وجوب إخراج الشاة إلى التخيير بينها وبين القيمة[16].
العرف: مثاله قوله تعالى (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين)[17]، فالآية تفيد بظاهرها وجوب الرضاع على الوالدات؛ لأن الوالدات لفظ عام يستغرق جميع أفراده، غير أن مالكا رحمه الله، خصص[18] هذا العموم بالعرف العملي، إذ رأى أن الوالدة الحسيبة إذا كانت تتأذى بالإرضاع لعلو منزلتها، ولجريان عرف قومها عملا بعدم الإرضاع، فلا يجب ذلك عليها[19].
العقل: ومثالهقوله تعالى (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا)[20]، فإن لفظ “الناس” يشمل الصبي والمجنون، إلا أن العقل يقطع بعدم دخولهما في الخطاب لغياب مناط التكليف وهو العقل، وهذا هو مراد من قال باعتبار العقل دليلا مخصصا للعموم[21].
ومما يجدر التنبيه عليه في ختام الحديث عن أهمية دليل التأويل؛ وذكر بعض أنواعه، أنه يتعيّن على كل من أراد تأويل ظاهر من الظواهر، ما يلي:
أولا: بيان الاحتمال المرجوح مع الظاهر.
ثانيا: بيان الدليل الذي يعضد ذلك الاحتمال ويقوّيه حتى يقدّم على الظاهر.
[1] – الإحكام في أصول الأحكام للآمدي، 3/50.
[2] – الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي، 3/50، وينظر روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه لابن قدامة، 2/563، ومختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل لابن الحاجب، 2/909.
[3] – البرهان في أصول الفقه للجويني، 1/213.
[4] – المستصفى من علم أصول الفقه، 2/49.
[5] – المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي للدريني، الطبعة الثالثة، السنة 2013م، مؤسسة الرسالة، بيروت – لبنان، ص: 162.
[6] – سورة المائدة، من الآية: 3.
[7] – سورة البقرة، من الآية: 172.
[8] – سورة الأنعام، من الآية: 145.
[9] – سورة الجمعة، من الآية: 9.
[10] – ينظر بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد، 1/167.
[11] – سورة النساء، من الآية: 92.
[12] – نزهة الخاطر العاطر شرح كتاب روضة الناظر وجنة المناظر لابن بدران الدّومي، 2/32، ولقد اختلف الأصوليون في إثبات الحدود والكفارات بالقياس، فالجمهور على جواز ذلك، والأحناف على عدم جوازه، ينظر شرح تنقيح الفصول للقرافي، ص: 400.
[13] – المناهج الأصولية، ص: 171.
[14] – وهو مثال ذكرته سابقا في جملة التأويلات البعيدة.
[15] – سنن أبي داود، كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة، رقم الحديث: 1572.
[16] – ينظر الإحكام في أصول الأحكام للآمدي، 3/52 – 53.
[17] – سورة البقرة، من الآية: 233.
[18] – والتخصيص تأويل كما سنرى في الفصل الثاني من الباب الثاني بحول الله تعالى.
[19] – ينظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 4/124.
[20] – سورة آل عمران، من الآية: 97.
[21] – ينظر المحصول في علم الأصول للرازي، 3/73.