المقالات

في تجديد الفكر الإسلامي: مدخل المفاهيم والقيم (هشام العشوش )

من الأسس التي ينبني عليها تجديد الفكر الإسلامي وينطلق منها مما وجدناه مبثوتا في إنتاجات المهتمين بهذا المجال عموما لا يخرج عن دائرة: ضرورة الاعتماد على نصوص الشريعة وعدم مخالفتها ومراعاة ضوابط الاجتهاد في الدين، وعدم الابتداع فيه، والتمييز بين الثابت والمتغير…

طه عبد الرحمن يتحدث عن ضرورة تجديد الفكر الإسلامي بتحمل المفكر للمسؤولية الأخلاقية التي تقابل المسؤولية الحضارية عند الغرب وعند من يوالون الطرح الفلسفي الغربي من أبناء أمتنا المستعمرة فكريا، وهي تتخذ عنده دلالة الإحياء، كأنها انبعاث بعد الموت، وتحديدا إحياءِ الإيمان، وإحياءِ الشعور بالمسؤولية، وإحياء الحياء الذي يجعل في مقدمته الحياء من الله.

من شأن هذا بحسب ما ذكر في كتابه المميز: “المفاهيم الأخلاقية”، أن يعيد للقيم الإسلامية -التي هي في أصلها قيم أسمائية مستمدة من أسماء الله الحسنى- رونقها وجمالَها، ويحولَ دون اندراسها، ويسهم في نشرها وبثها بين الناس. كما جاء في التعريف الذي مر معنا. لإن موضوع الفكر الإسلامي عموما كان وما يزال وسيبقى عملا للعقل “وهو القلب في القرآن الكريم”، وإعمالا للنظر في المتغيرات الزمانية والمكانية، التي تعرض للأشخاص والأحوال وتؤثر في تباين الأنماط الثقافية، ونسهم في حسن تنزيل التصور الإسلامي في وقائع مختلفة، أو تنقيح المناط بحسب التعبير الأصولي أو توخي التسديد في تنزيل الأحكام الشرعية على محالـّها.

وبالحديث عن العقل، فلا يجب أن نخشى من إعماله أبدا، إذ كل ما ثبت من العلوم واليقينبات لا يمكن بحال من الأحوال أن يخالف أو يتعارض مع ما جاء به النص الديني لأنهما -أي الوحي المسطور والمنظور- يصدران عن إرادة واحدة هي إرادة الله تعالى.

فلم يسبق لأمة من الأمم أن أفلحت بتخليها عن مقتضى العقل السليم، لأن التكاليف كلّها قد أنيطت به، وليس هناك ما يعجل بتآكل الأمم وزوالِها؛ قيما وحضارة وانتاجا ماديا ومعنويا، علميا ومعرفيا، من تعطيل العقول ومعادات المنطق العقلي.

ومن الضوابط العامة لهذا التجديد أن لايكون مطلقا في أصل الدين وذاته؛ إنما يكون في تجديد علاقة الفهم والامتثال والنظر إليه، والإيمان الدائم باحتمالية تجويد النظر والفهم لروح الرسالة الخالدة، وهنا نعتبر أن الاعتقاد بقدرة فرد ما أو حتى جماعة ما، على تحقيق إنجاز مطلق وكامل، هو ضرب من المحال وتضييق لواسع، ومخالفة صريحة لخيرية هذه الأمة التي يبتعث الله تعالى منها على رأس كل مائة عام من يجدد لها أمر دينها.

تجديد الفكر الإسلامي هو تجديد للمفاهيم الدالة عليه، فالحفاظ على أصالة المصطلحات يعزز التحرر من سلطة المصطلحات الدخيلة، ومن هيمنة دلالاتها الطاغية والطارئة، وبدل أن تكون لبنات

لبناتِ بناء تصير معاول هدم، وتزيد من تكريس تبعية فكرية حتى في الدعوة لما أسماه الدكتور العقاد الاستقلال الفكري الذي يتجلى حينا في التحرر من القديم، ويتجلى حينا آخر في التحرر من الجديد”.

تجديد الفكر الإسلامي يكون كذلك بنقد هذه التوليفات التي انتهى إليها المنتوج الفكري العربي المرتبك، في تفاعله مع التراث ومع الفكر الغربي، كما يولي كبرى اهتماماته لبناء الإنسان على أساس تحقيق مبدء الأمانة، فيبث في الناس معاني الطهر والوفاء والإيمان، وهو تجديد ينتصر لقضايا الأمة ولانتظاراتها في تحقيق الشهود الحضاري، كما أنه تجديد يتيح تشغيل الميكانزمات والضوابط بفاعلية، ويسمح للأمة ببناء “صرح معرفي” قادر على الإجابة والاستجابة لمستجدات العصر، انطلاقا من ثوابت وأصول الوحي.

تجديد ينفتح على بديع ما أنتجه الفكر الإنساني، إذ الإحالة على بعض ما انتهت إليه البشرية من علوم ومعارف نشأت ابتداء في الغرب أو نضج نموها واكتمل هناك، لا يعني بالضرورة خيانة للذات، فقد نستلهم من تجارب الأمم الأخرى مثلا آليات تدبير الخلاف، ونكون أكثر ولاء للذات من تمثل بعض التجارب التي تزخر بها الجغرافية الإسلامية.

هو كذلك تجديد ينطلق من الانتصار للغة العربية ولمكانتها الرمزية والوظيفية والحضارية، وهنا وجب التنبيه إلى ضرورة افتحاص دقيق للأفكار والدعاوى التي تنعي اللغة العربية، وتمعن في الإلماح تارة والتأكيد أخرى إلى عجزها عن مجارات التطور العلمي والتدفق المعرفي الهائل، الذي تعرفه زمنية العولمة والحداثة وما بعدهما، إذ هي -بحسب زعمها- زمنية تجاوزت الشعر والنثر والبلاغة، واستبدلت كل ذلك بسرعة الانجاز، وفاعلية التحرك في دائرة الانتاج التكنولوجي الذي لا يؤمن إلا بلغة التفوق الصناعي والانتاج المادي…

ينسى أولئك -أو يتناسون- أن العربية هي عنوان للذات، ورمز للهوية، ووعاء للعلم والفن والأدب، هي لغة العلوم والمعارف، هي تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا، كما ينسون أن مجافاتها والتفريط فيها انسلاخ وتخلٍ عن كل ما سبق…

تجديد عينه على ثوابت الأمة، يعزز قيامها على أحسن وجه، ويستجمع الجهود لخدمتها، يحوطها بكامل العناية والحفظ وجودا وعدما، بتعبير الإمام الشاطبي، ويبقيها في النفوس حية غضة طرية يدفع عنها عبث العابثين وانتحال المبطلين، وخذلان النفوس المهزومة، يبشر الناس بما تحمله من معاني الخلاص لأمة عانت سنين طويلةً من انسداد الأفق وضيق مساحات الاجتهاد، وللإنسانية كلها من هيمنة الأنساق الفكرية المعادية للفطرة، كما يكون تجديدا يساير بمرونة تغير الوسائل لا الأصول.

والحمد لله رب العالمين

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق